أثناء الجولة التي قامت بها إلى الشرق الأوسط في وقت سابق من هذا الشهر، قالت وزيرة الخارجية الأميركية "كوندوليزا رايس" للصحفيين المرافقين لها إنها ترى الشرق الأوسط اليوم، أشبه بأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد الحرب الباردة. وقد أدهش قولها هذا الصحفيين لأن التشبيه لم يكن واضحاً، ولأنهم لم يستطيعوا أن يتبينوا وجه الشبه بين الحالتين على وجه الدقة. وفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال"، فإن ذلك التشبيه يدل على أن "رايس" كانت تبحث في مجال تخصصها العلمي(الشؤون السوفييتية) عن أسباب تبرر إحساسها بتفاؤل حول الوضع في الشرق الأوسط، يفوق ذلك الذي يستطيع معظم الناس في الوقت الراهن تكوينه. وعندما سئلت عن غرضها من عقد تلك المقارنة قالت إن غرضها من ذلك هو القول إن الولايات المتحدة قد تمكنت في النهاية من الخروج منتصرة من الحرب الباردة، على الرغم من الشكوك التي كانت تحيط بذلك، وأن تجربة أميركا في الحرب الباردة قابلة بالتالي للتكرار في العراق. ومحاولة الوزيرة الأميركية الظهور بمظهر المتفائلة بشكل مبالغ فيه كان يدعو للاستغراب في الحقيقة، لأن الرئيس الأميركي جورج بوش نفسه لم يكن يبدو متفائلاً على هذا النحو في أثناء خطابه السنوي عن "حالة الاتحاد". ليس هذا فحسب بل إن مطالبته الكونجرس بمنحه "فرصة للنجاح" لأنه (هذه المرة؟) لديه "خطة واضحة للنصر" بدا محملاً بشكوك لم يفصح عنها على الرغم من أن الفريق "ديفيد بيتريوس" حاول أن يظهر أن الوضع إيجابي خلال الكلمة التي ألقاها خلال جلسة الاستماع التي عقدت في مجلس "الشيوخ" لتثبيته في منصبه في موعد لاحق من نفس اليوم. هناك القليلون في واشنطن اليوم، وبشكل أقل خارجها، ممن لديهم الاستعداد للقبول بفكرة أن منح بوش" فرصة أخرى" سيؤدي إلى تغيير حاسم في الحرب على الإرهاب. ويبدو هذا صعباً على وجه الخصوص، بعد قيام الرئيس بوش بإعادة تعريف الحرب التي تخوضها أميركا في الوقت الراهن بأنها "صراع عالمي ضد الأصولية" وهو ما يعني بالتالي أن القوات الأميركية الموجودة بالخارج في الوقت الراهن لن تعود إلى الوطن قبل انقضاء وقت طويل. وفي الحوار الذي أجرته مع الصحفيين سألها أحدهم عن أحداث التاريخ العربي التي أثرت على فكرها وعلى نظرتها للأمور بالنسبة للحاضر، فكانت إجابتها أن أهم تلك الأحداث في نظرها هو "تجربة الاستعمار البريطاني في بلاد الرافدين في عشرينيات القرن الماضي". وهنا أيضاً أرى أن إجابة "رايس" لم تكن موفقة، لأن تجربة الاستعمار البريطاني في تلك البلاد التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية قبل ذلك قد جوبهت بمقاومة وطنية قادت إلى فرض ملك عربي لحكم البلاد. ولكن هذا الملك تعرض عام 1936 لمحاولة انقلاب كانت هي الأولى في سلسلة من الانقلابات العسكرية ضد النظام الملكي أدت في نهاية المطاف إلى القضاء عليه. ولو كانت "رايس" قد تابعت قصة العراق حتى نهايتها لكانت قد عرفت أن الجيش العراقي، قد استولى على السلطة من الملك فيصل الثاني بعد أن قتله هو وولي عهده، وأعلن النظام "الجمهوري"، ورفض المشاركة في حلف بغداد الموالي لأميركا، وأعلن حياد بلاده في الحرب الباردة التي كانت قائمة في ذلك الوقت. أما مقارنة "رايس" بين الوضع في الشرق الأوسط الآن والوضع في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فهي مقارنة تفترض أن العالم خلال الفترة 1945-46 وأواخر الثمانينيات كان ينظر إلى الولايات المتحدة على أنها كانت في طريقها لخسارة الحرب الباردة أمام الاتحاد السوفييتي، وذلك قبل أن تنتصر في تلك الحرب في النهاية بشكل مباغت(ولم تكن تلك هي النظرة التي نظر بها العالم لما حدث خلال الفترة 1946-1989). "رايس" إذن تريد أن تقول إن الجميع يعتقدون أن الولايات المتحدة تخسر الحرب في العراق، ولكنهم سيدركون في النهاية أن التاريخ سيقف إلى جانب إدارة بوش. وهي تقول ذلك على ما يبدو لأنها ترى "اصطفافاً جديداً" لحلفاء أميركا "المعتدلين" في الشرق الأوسط والذين يشملون: إسرائيل، والأردن، ومصر، والمملكة العربية السعودية والكويت. ولا أدري ما هو وجه المقارنة بين هذا الاصطفاف لحلفاء أميركا في الشرق الأوسط، وأوروبا عقب الحرب العالمية الثانية. فالحرب الباردة في جوهرها كانت عبارة عن مواجهة عسكرية بين الدول الأعضاء في حلف "الناتو" من جانب والدول الأعضاء في حلف "وارسو" الذي يسيطر عليه الاتحاد السوفييتي من جانب آخر وكانت تدور حول السيطرة على أوروبا. وفي جانب آخر منها كانت تلك الحرب صراعاً أيديولوجيا، حاول أنصار الماركسية فيه تقويض أنصار الرأسمالية والديمقراطية البورجوازية في أوروبا، أي أنها كانت على وجه من الوجوه صراعاً يقف فيه "المتطرفون" في جانب ويقف فيه "المعتدلون" في الجانب المقابل. ولكن ما هو وجه الشبه بين ذلك الوضع في أوروبا في ذلك الوقت والشرق الأوسط الآن؟ إيران تشكل تهديداً لإسرائيل التي تبعد عنها بآلاف الكيلومترات، والتي لا يمكن مهاجمتها إلا بالصواريخ أو بالطائرات فقط. يمكن لإيران بالطبع ضرب إسرائيل من خلال منظمتي "حماس" الفلسطينية و"حزب الله" اللبناني، ولكن هاتين المنظمتين لهما أجنداتهما الخاصة ووجودهما المستقل، كما يمكن لها أيضاً أن تتدخل في العراق رداً على هجمات أميركية أو إسرائيلية على منشآتها النووية. الصراع بين إيران والمعتدلين العرب في جوهره صراع ديني- أيديولوجي(شيعة في مقابل سُنة). أما الصراع الذي يضم المنظمتين المدعومتين إيرانياً وهما "حزب الله" وحركة "حماس" الفلسطينية كما يضم "القاعدة" السُنية فهو ليس صراعاً بين العرب بقدر ما هو صراع بين تلك الحركات من جانب وإسرائيل والولايات المتحدة والحلفاء الغربيين من جانب آخر، بسبب معاملة الإسرائيليين للفلسطينيين وبسبب القواعد الأميركية الموجودة في السعودية، وبسبب غزو العراق. كيف يمكننا أن نربط بين هذا والحرب الباردة؟ في ظني أن" رايس" تريد أن تقول إن الدول العربية المعتدلة المرتبطة بتحالف مع الولايات المتحدة هي التي ستسود في المدى الطويل لأنها مرتبطة بالديمقراطية والسوق الحرة اللتين يعتقد الأميركيون أنهما هما اللذان سيسودان في نهاية المطاف. إن القول بأن أربعة أنظمة معتدلة وإسرائيل، يمثلون مستقبل الديمقراطية في الشرق الأوسط هو قول يبدو لي مشكوكاً فيه.. ولكن ليس هذا هو المهم. فالمهم في رأيي هو أننا قد فهمنا ما ترمي إليه كوندوليزا "رايس". ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع" تريبيون ميديا سيرفيس"