هل تراجعنا عن حضور ثقافي ونشاط فكري متميز؟ هل صار الاقتصاد هو التفصيل الأهم في سلم الأولويات وتحولنا إلى مجرد فكر اقتصادي محض؟ جدول الثقافة لدينا لم يعد بذاك الامتلاء، وربما لم يعد للفكر والحوارات الفكرية مكان كما كان لها سابقاً، فالثقافة والفعل الثقافي هما صمام البقاء والحياة اللذان لهما تأثيرهما الأقوى على مسيرة النهضة والتنمية. ففكر اقتصادي محدود يعني نهاية حتمية للانجازات على أي صعيد، فالفكر الثقافي يعني لبنة أولى أساسية ومهمة في عملية التقدم، أي تقدم. الخوف من أن تسبقنا بعض الدول في المجال الثقافي، فلا تكاد صحفها اليومية تخلو من أخبار لأحداث ثقافية ومؤتمرات فكرية ولقاءات مع النخب المفكرة على مستوى الوطن العربي الكبير، الأمر الذي يستدعي الانتباه لهذه الدول التي ينمو فيها النشاط الثقافي بشكل لافت. ولأننا اعتدنا على كون الدولة هي السباقة في كل شيء، فكان من الضروري أن يبرز وعيها ومشروعها الهادف إلى غرس الثقافة والاعتناء بعمقها وجذورها الضاربة في بطن صحراء الدولة وبحرها. فالمشروع الغائب، في حاجة لمن يستنهضه، فأين نجد اليوم المثقف والمفكر صاحب المشروع الثقافي؟ هل كان مصيرهم الإقصاء، أم أنهم انشغلوا بالخبز وتخلوا عن دورهم الحقيقي رغم أنهم متواجدون ولهم ثقلهم المعرفي؟ لكن منْ أبعدهم عن الساحة الثقافية وإلى متى؟! كان "غرامشي" المفكر الإيطالي أول من نادى بعلاقة المثقف والسلطة، وضرورة أن يكون للمثقف هامش استقلال ثقافي يتحرك من خلاله، والسلطة لدينا تتمتع بالنزاهة وفتح باب الحوار دائماً لولا أن الأمر تعلق بالدخلاء على الفكر الحقيقي البعيد عن المصالح والمصداقية. فالعلاقة بالسلطة لا تهز المصداقية أو الفكر الحر لدى المثقف، والأزمة هنا تتكتل لتكون عبئاً على المجتمع، فهذا المثقف تنازل عن مبادئه من أجل ذاته، لتكون بذلك الأزمة أعمق وأخطر. التنمية الشاملة في حاجة إلى أهل الفكر أصحاب الصدق أولاً وأخراً، لأن المداحين كثر والصادقين يتحتم وجودهم، ليصير التوازن سمة أساسية في التعاطي مع مشروع ثقافي يؤسس لعلاقات حية وفاعلة بين كافة قطاعات المجتمع. فالإطار العام للثقافة يستدعي منظومة قيم، يُخشى من أن تتحول إلى التقاطع والتصادم والتلاشي، وبالتالي يعاني الشباب من ازدواجية في نظرته العامة وحكمه على الفعل الثقافي بالشكل العميق والحضاري. احتضان الثقافة ودعم الشباب المثقف لابد أن يكون أول أولويات المشروع الثقافي الوطني، خاصة في ظل الإغراق لدرجة الإسفاف، الذي جعل الشباب يعاني من حالة فوضى فكرية لابد من التدخل وترتيبها حتى يتسنى للثقافة أن تنطلق في سباق يستدعي التحول بالمجتمع إلى مجتمع قيمي له ثوابته وأفكاره ونظرته المنطقية الموضوعية للأحداث من حوله. الحديث عن الثقافة ذو شجون وله شعاب وعرة وطرق وهمية خطرة وربما صعبة بالتأكيد، لكن استدعاء مثل هذا المشروع والتركيز على ضرورته أمر بات أهم بكثير من كل الاحتفاء الاقتصادي بالانجازات. فالثقافة استنهاض لإنسان يعول عليه المستقبل والتاريخ والجغرافيا بالتأكيد!