في أواخر العام 2006 ترأس وزير الخزانة الأميركي "هينري بولسون" وفداً أميركياً في زيارة حظيت بتغطية إعلامية واسعة إلى بكين. ولا بد أن الزيارة كانت في منتهى الجدية ما دام الوفد ضم بين صفوفه "بين بيرنانك"، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ليتضح أن "بلوسون" و"بيرنانك" وغيرهم من أساطين إدارة الرئيس بوش الأب شدوا الرحال إلى الصين للمشاركة في ما يطلق عليه رسمياً "الحوار الاقتصادي الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة" الذي يبدو للوهلة الأولى على أنه مجرد اجتماع روتيني بين الخبراء في علم الاقتصاد. لكن ما الذي انطوى عليه الاجتماع حقيقة؟ فغالباً ما تعطينا الاجتماعات التي تمزج بين الاستعراض والجدية لمحة على ما ستكون عليه العلاقات بين القوى العالمية وكيف ستتشكل؛ كما تخبرنا شيئاً عن القدرات السياسية للمسؤولين الأميركيين الذين كان عليهم قبل سنوات إبراز كفاءتهم في قضايا أخرى مثل الحوار مع الاتحاد السوفييتي، أو الخوض في مشاكل الشرق الأوسط. واليوم أصبحت العلاقة بين القوى العالمية، لا سيما القوة الوحيدة وتلك الصاعدة، تدور حول المال بدل الصواريخ. وعلى أي حال يشكل هذا التطور من الصواريخ إلى المال تحسناً مهماً في العلاقات الدولية مقارنة مع فترة الحرب الباردة التي كانت تخشى فيها الولايات المتحدة من القدرات الصاروخية لموسكو، وبخاصة الصواريخ بعيدة المدى المزودة برؤوس هيدروجينية. فقد كان الاتحاد السوفييتي يملك الكثير منها، لكنه في المقابل لم يكن يتوفر على ما يكفي من المال، حيث انتهت الجولات الطويلة من المفاوضات إلى ما بات يعرف بـ "المحادثات الاستراتيجية للحد من التسلح". أما الصين التي لا تتوفر سوى على عدد ضئيل من الصواريخ المزودة برؤوس نووية، فتمتلك في المقابل الكثير من المال الذي ما فتئ يتزايد يوماً بعد يوم. وكما كان المسؤولون الأميركيون منشغلين في الماضي بالصورايخ النووية السوفييتية وما ستفعل بها موسكو فإنهم اليوم منشغلون بالأموال الهائلة التي تملكها الصين وما ستفعل بها. ولعل السلاح الأمضى للصين هو ترسانتها المالية، وتحديداً حيازة حكومتها لأكثر من تريليون دولار من العملات الأجنبية التي حصلت عليها من خلال تجارتها الخارجية. ومن بين التريليون دولار التي خزنتها في بنكها المركزي تستثمر الصين حوالي 400 مليار دولار في سندات الخزينة الأميركية، وبعبارة أخرى أقرضت الصين الحكومة الأميركية 400 مليار دولار. فماذا لو قررت بيكين التخلص من تلك السندات، أو أن تتوقف عن شرائها، وبالتالي الكف عن إقراض الولايات المتحدة؟ يقول لنا طلبة تخصص المالية الدولية في الجامعات بأن نسبة الفائدة سترتفع إلى السماء، وستنخفض قيمة الدولار إلى الحضيض. والأكثر من ذلك يمكن لجنرال صيني أن يلاحظ بنوع من الرضا أن الأموال الصينية ستتوقف عن تمويل القدرات العسكرية الأميركية. وقد يضيف أيضاً أن بلاده، في حال امتناعها عن شراء السندات الأميركية، ستكف عن تمويل العجز التجاري الأميركي الذي يقدر بحوالي 200 مليار دولار في العام الواحد، وهو ما يوازي عام من الإنفاق على الحرب في العراق. وهكذا يبدو أن الصين قادرة على تسديد ضربتها المالية الأولى إلى الولايات المتحدة التي ستكون موجعة بلا شك. لكنها إلى حد الآن أحجمت عن ذلك، ومن غير الوارد أن تقدم على ذلك في المستقبل. وباستخدام لغة الحرب الباردة يبدو أن الصين واقعة تحت قوة الردع الأميركية التي عبر عنها وزير الخزانة الأميركي السابق "لورانس سامرز" بعبارة "توازن الرعب المالي" على غرار "التدمير المتبادل" الذي كان سائداً خلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ومثلما كان انهيار توازن الرعب إبان الحرب الباردة يهدد بوقوع كارثة عالمية، فإن انهيار التوازن المالي سيسبب أيضاً في كارثة عالمية لا تقل خطورة على الاقتصاد العالمي. ورغم أنه لا أحد فكر في هذا السيناريو من قبل، إلا أن أي اختلال في التوازن المالي الدقيق سيحرم الصين من 40% من ناتجها الإجمالي المتأتي من علاقاتها التجارية مع الخارج، كما سيغرق الاقتصاد العالمي بأكمله في الركود. وتبقى العبارة الأكثر تهذيباً والمعبرة عن "توازن الرعب المالي" هي "الاعتماد المتبادل"، بما تعنيه من تداخل وتشابك التدفق المالي والتجاري، فضلاً عن البُنى المعقدة سواء الخاصة منها، أو العامة التي تدعم تلك العملية. وإذا كان النظام السياسي قد عرف، حسب وزير الخزانة الأميركي السابق "سامرز"، كيف يتأقلم مع المعطيات العسكرية المتجددة وإعادة التسليح، إلا أنه من الصعب أن يتأقلم بالسرعة الكافية مع التغيرات التي قد تطرأ على أنماط الادخار والإنفاق والضرائب المرتبطة كلها بالنظام المالي للدول. وفي هذا الوقت الراهن تقوم الشركات والأفراد في الصين بمراكمة الأموال مستغلين قدرتهم الكبيرة على الادخار. ولأن الثقة في النظام الصيني لم تتعزز بعد لدى الجمهور، فإن الصينيين عادة لا يستثمرون مدخراتهم، ما حدا بالحكومة إلى تقويض شبكة الأمان الاجتماعي علهم يستثمرون مدخراتهم. وفي هذا الإطار تقوم الحكومة الصينية بتحويل أعباء تكلفة السكن والتعليم والرعاية الطبية، فضلاً عن معاشات التقاعد إلى الأفراد لدفع المواطنين إلى الاستثمار أسوة بالدول الأخرى في العالم. ورغم أن الصين باتت تتوفر اليوم على سوق للأسهم وصناديق استثمارية، فإن قيمة أسهم الشركات والمؤسسات الصينية المطروحة في البورصة لا تتجاوز تريليون دولار. وهو إن كان مبلغاً كبيراً إلا أنه لا يقارن مع ثلاثة تريليون دولار في اليابان، أو 13 تريليون في سوق الأسهم بنيويورك. ما يهمنا نحن خارج الصين هو أن الشركات الصينية ستصبح قريباً قادرة على استثمار أموالها في الأسواق الأجنبية، لتضخ مليارات الدولارات في الأسواق العالمية. فهل نحن مستعدون لاستقبال الأموال الصينية في أسواقنا الداخلية؟ قد لا يكون الأمر خطيراً بالنسبة للولايات المتحدة التي مازال سوقها أكبر من أن تلتهمه الأموال الصينية، لكن في مناطق أخرى فإن الصين سيكون بمقدورها شراء خمسين مليار دولار التي هي قيمة سوق الأسهم في نيوزيلندا، وبإضافة خمسين مليار أخرى تستطيع شراء مجمل الأسهم المطروحة في الأرجنتين. تشارلز هورنر ـــــــــــــــــــ زميل بارز في "معهد هودسون" بأميركا ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"