خلال العشرة أيام الأخيرة من يناير 2007، شهد العالم اجتماعين على قدر من الخطورة بالنسبة لمصير المرحلة الإنسانية الراهنة. كان لي حظ حضور أحدهما في نيروبي، وهو "المنتدى الاجتماعي العالمي" بينما كان الآخر في دافوس (سويسرا) باسم "المنتدى الاقتصادي العالمي" والذي لا يمكن لمثلي حضوره أصلاً! وينعقد اجتماع المنتدى الاجتماعي العالمي لسابع مرة (منذ 2001) تحت شعار دائم هو "عالم آخر ممكن"، وذلك منذ عقد أول مرة على استحياء بجوار لقاء الدول الغنية الكبرى ومناصريها من نظم الحكم في سويسرا عام 2001 ليعلن بضع مئات في ذلك الوقت أن جدول أعمال الأغنياء هذا إنما يوضع لترتيب المصالح الرأسمالية الكبرى والنظر لمصالح الدول الفقيرة ببعض الشفقة فيما يتعلق بالمساعدات والديون وما يعرف بالحد من الفقر. من هنا نشأ التجمع المقابل بعد أن قرر الرافضون للعولمة ونتائجها من فقر وديون باسم المنتدى الاجتماعي العالميForum World Social بل ذهبوا بعيدا ليلتقى الآلاف في "بورتو أليجري" بالبرازيل لعامين متتالين في نفس موعد اجتماع أثرياء دافوس أو قبله بعدة أيام لينقلوا للعالم كله صرخة المظلومين من شعوب عالم بلدان الجنوب، وبحضور من يتعاطف أو يتفق معهم من منظمات أهلية في دول الشمال الغني نفسه. وقد نجحت صرخات ممثلي هذه الشعوب أكثر من مرة في هز مقاعد زعماء هذه الدول الغنية بل وقلقهم الحقيقي كما رأينا في "سياتل" وروما، كما هزت مواقفهم أحياناً في دورات اجتماع منظمة التجارة العالمية في المكسيك بعد تعقد الاتفاق في دورة الدوحة نفسها. بهذا الإحساس الحقيقي بالتأثير على القرار العالمي للأغنياء رغم عدم القدرة بعد على تغييره تماماً، تحرص الآلاف على اللقاء في هذه العاصمة أو تلك من "بورتو أليجري" إلى بومباي إلى باماكو وكاراكاس وأخيراً في نيروبي. ولذا رحت إليها لأرى كيف يحتشد هؤلاء وراء مثل هذا الشعار الذى يبدو مثالياً حين يتطلع إلى "عالم آخر ممكن". والشعار نفسه يكشف عن إحساس بالشقاء والضنى بالفعل، لأنه لا يعبر عن حلم محدد بدولة الرفاه مثلاً أو بالاشتراكية التى مازال البعض يتوقع نهوضها، أو في سعادة مؤكدة، ولكنهم فقط يريدون أن يخرجوا من هذا الواقع الأليم لعالم "آخر" ممكن تتحدد هويته بالمشاركة في نقاش حقيقي وشفاف بشأنه كما يحدث في المنتدى الاجتماعي العالمي، حيث لا مجال للنفاق أو الكذب أو الوعود الزائفة التي تصدر عن "دافوس" في الغالب. على بعد بضعة كيلو مترات من نيروبي، وفي مقر "الأستاد" الكبير هناك احتشد أكثر من خمسين ألف مندوب ومشارك وممثل لمئات المنظمات الأهلية والاجتماعية والسياسية من أنحاء العالم جنوبه وشماله، كثيرون منهم يعرف بعضهم الآخر نتيجة سابق اجتماعاتهم من قبل في عواصم أخرى من بلدان العالم الثالث. وهذه الحشود لا تجتمع حتى الآن وفق جدول أعمال محدد، وإنما هي موضوعات عامة تبدأ برفض الحروب وقهر الشعوب، وآليات العولمة الساحقة ونتائج ذلك في مظاهر الفقر، الاستبداد، الفساد، الديون، الصحة، المرأة، الأقليات، لتصل إلى أنماط الديمقراطية وحقوق الإنسان، ومشاكل الأرض والمياه، والتمثيل على المستوى العالمي في المنظمات الدولية. كلها إذن هي مجمل هموم البشرية، ومحاكمة عسكرة العولمة خاصة بقيادة الولايات المتحدة التى تفرض هيمنتها بالقوة وليس فقط بالإعلام أو الثقافة الأميركية فيما سمي أيضاً "أمركة العالم" إشارة لطبيعة العولمة المفروضة. ويبدو أن قرب موقع نيروبي هذه المرة من "الشرق الأوسط" الكبير أو الصغير حسب الموجه الأميركية، جعل قضايا العرب حاضرة بشكل لا يمكن التقليل منه خاصة ونيروبي في الجوار الساخن للصومال والسودان، ناهيك عن المشرق العربي بفلسطينه وعراقه! ولكي يتصور الجميع مدى حضور قضايا "الجميع" في هذه الساحة يجب أن نعرف أن جداول الأنشطة في أكثر من مائة وخمسين قاعة، رتبت لعقد أكثر من ألف ندوة خلال خمسة أيام من الثامنة والنصف صباحاً حتى السابعة أو الثامنة مساء. ويستطيع الشباب العربي أن يتصور قيمة الحضور في مثل هذا المنتدى إذا عرف أن شخصية فلسطينية مثل "ليلى خالد" تحدثت في الحشد الأساسي للخمسين ألف مشارك ثم في أكثر من عشرة اجتماعات فرعية على الأقل، وبالمثل تحدث باحث من "حزب الله" مع غيره من اللبنانيين في ندوات أخرى كما حدث رئيس تحرير إحدى الصحف العراقية القومية لعدد آخر من الندوات. وطبيعى أن نتصور كثافة حضور الصوماليين محتجين على الهجمات الأميركية الجوية ضد شعبهم. وقد تم ضرب مقديشو وجنوب الصومال بالطيران الأميركي وقت انعقاد إحدى ندواتهم، كما شرح أبناء جنوب السودان أزمتهم مع اتفاق نيفاشا. وبالمثل كانت هناك حركة كبيرة حول قضايا المرأة، والصحة، والبطالة لعبت فيها المنظمات القادمة من الدول العربية دوراً ملحوظاً. وقد كانت طبيعة هذا الاجتماع الحاشد باسم المنتدى الاجتماعي موضع مناقشة مستمرة وخاصة بحضور الشخصيات الفكرية، التي تحملت انتظام مثل هذا الاجتماع منذ بدايته أمثال سمير أمين، "فرانسوا هوتار"، "والدن بللو" و"فالرشتين"، "ومورثي". وقد جرى تفكير في عدة قضايا أصبحت بارزة على سطح العمل التعبوي والنقدي الذي يتم في مثل هذا الاجتماع، وهل يكتفي فقط بإصدار الإعلان العالمي بمجمل القضايا ثم تتبناه المنتديات القطرية وتعمل على تفعيله أم ينتظم المنتدى في لقاءاته هذه ضمن حلقات محددة وجداول مخططة لتنتهي إلى قرارات ينظر في وسائل تفعيلها؛ وهل يظل الاجتماع حاشداً بهذا الشكل أم يقسم إلى موضوعات أو حشود في قارات مختلفة. وهل يكتفي بالوصف والتحليل أم ينتقل الجميع إلى مرحلة تبحث فيها البدائل المطلوبة لهذه الشعوب بعمق أكبر من قبل ممثليها هؤلاء؟ لا اعتقد أنه وسط هذه الآلاف كان يمكن التوصل لنتائج محددة، فاكتفي بإقرار انعقاد المنتدى كل عامين وليس كل عام. وأن يجرى البحث عن عواصم تقدم بعض المساعدة ليكون أكثر جماهيرية مثلما حدث من قبل في بلدان أميركا الجنوبية، وبدرجة مماثلة في "باماكو" بمالي، لكن الظروف التى أدت لقبول انعقاده في "نيروبي" جعلت اللجان التنفيذية تخضع لمبدأ تأخير كل شبر تخطو عليه الوفود، من أول "الاستاد" إلى مضاعفة رسوم الاشتراك للدخول إلى مضاعفة أسعار الفنادق. فقراء نيروبي وجوارها لم يستطيعوا تحمل تذكرة الدخول ولا مواصلات الوصول كل يوم، فقرروا إقامة منتدى حر في ساحة بقلب العاصمة نفسها، أثاروا فيها العديد من قضايا الاعتراض على الحكم وسوء أحوال المعيشة، وأتاحوا للمعارضة الكينية نفسها فرصة كبيرة للحديث إلى أوسع جماهير ممكنة لا تتوفر لهم في مناسبات أخرى. وقد اعتبر ذلك إبداعاً شعبياً من ناحية، كما أن تحرر المنتدى العام كله من "مجاملات" العواصم كان إضافة بدورها، ضمنت أكبر قدر من حرية التعبير والتظاهر للجميع دون قيود. عندما كنا نستعد للرحيل، تساءل بعضنا، وخاصة القادمون من الدول العربية- إلى أي حد تتحمل إحدى العواصم العربية مثل هذا اللقاء؟ أو تحمل خطاب المتطلعين إلى عالم أخر افضل؟. أم تُرى يبقى اعتقاد العرب أن اللقاء في سويسرا دائما هو الأفضل؟ ويبدو أن ثقل النقاش في هذا الاتجاه، جعل مسؤولية التفكير تبدو أعمق، ودفعت مسؤولي المنتدى إلى إقرار عقد المنتدى كل عامين بدلاً من عقده سنوياً. والبوصلة الآن قد تتجه إلى كاراكاس "فنزويلا"، فهناك يمكن الرد على كثير من هذه الأسئلة... حول الضيافة.. و"البديل الاشتراكي" أيضاً!