في أعقاب هزيمة1967 بدأت النخبة العربية- كعادتها بعد كل انكسار يصادف مسيرة الأمة- محاولة للبحث عن الأسباب، واهتدت إلى أن غياب الديمقراطية في مرحلة المد القومي العربي كان سبباً رئيسياً، دون أن يعني هذا إعفاء العامل الخارجي (إن لم يكن التآمر) من مسؤوليته الأساسية في هذا الصدد، غير أن المعنى كان واضحاً، ومؤداه أن مزيداً من الديمقراطية كان من شأنه أن يوفر مناعة أقوى ضد العدوان الخارجي. في الواقع العملي شهدت محاولات الاقتراب من النموذج الديمقراطي ألواناً من التلكؤ والتباطؤ والمراوغة، ولم يكن هذا للأمانة راجعاً إلى ممانعة النظم فحسب، وإنما إلى عدم تبلور التكوينات الاجتماعية الملائمة لبنية ديمقراطية سليمة، وعدم رسوخ ثقافة الديمقراطية في المجتمعات العربية، وهكذا ظل وضع الديمقراطية في الوطن العربي يراوح مكانه أو على أحسن الفروض يتقدم ببطء دون حدوث نقلة نوعية بأي معيار. ومع مطلع القرن الحالي، وبصفة خاصة في أعقاب أحداث سبتمبر2001 دخل العامل الخارجي بقوة إلى ساحة التأثير في مسار "التحول الديمقراطي العربي"، فقد اعتاد العرب من الولايات المتحدة أن تؤيد أصدقاءها بغض النظر عن مدى ديمقراطيتهم، لكن الإدارة الأميركية- وقد نسبت الأحداث إلى إرهاب أفرزه واقع الاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والتطرف التعليمي في المنطقة- بدأت تتحدث عن ضرورة نشر الديمقراطية وتعزيزها في الوطن العربي، وكان العراق هو أول أهداف التحرك الأميركي في هذا الصدد. ثم بلورت مبادرة الشرق الأوسط الكبير في فبراير 2004 رؤية أميركية شاملة لتسويغ التدخل من أجل الديمقراطية. ورغم الرفض الواسع عربياً لهذه المبادرة، فإن أصواتاً محددة قد رحبت بتأكيدها على الديمقراطية طالما أن النظم العربية الاستبدادية لا يمكن إزالتها بفعل داخلي منفرد. وعاش هؤلاء في هذا الوهم إلى أن اضطرت الإدارة الأميركية بفعل تطور الأوضاع في العراق إلى العودة قولاً وفعلاً لإعطاء الأولوية للاستقرار ولو على حساب الديمقراطية. أفضت هذه التوليفة من العوامل الداخلية والخارجية إلى مزيد من التعثر "الديمقراطي" في الوطن العربي، كما تظهر ذلك مجريات الأحداث في كل من العراق وفلسطين ولبنان: في العراق جرت الانتخابات التشريعية في ظل الاحتلال ووفق شروطه، وأفضت إلى ولادة متعثرة لحكومة يتوزع ولاؤها بين الولايات المتحدة وإيران، دون أن تكون قادرة على إظهار أدنى كفاءة في تحقيق ديمقراطية سليمة في العراق، ولا حتى استقرار يحفظ أرواح أبنائه ويساعد على البدء في إعادة البناء. فجوهر الديمقراطية لا ينبثق من انفراد الأغلبية بالحكم وممارسة الانتقام من قوى اجتماعية لتصفية حسابات قديمة، وإنما ينبثق من نجاح هذه الأغلبية في التعبير عن مصالح المجتمع، ومن ثم الحصول على شرعية تقوم على الرضا، ولذلك فالديمقراطية الراهنة في العراق محكوم عليها بدوام الإخفاق طالما بقي الاحتلال والمتطرفون الذين يستظلون بظله لتنفيذ مآربهم الضيقة. أما في فلسطين فقد ناقضت الإدارة الأميركية نفسها، إذ وضعت قيوداً صارمة على حكومة الأغلبية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية عام 2006، وفرضت مع حلفائها وأصدقائها وتابعيها، حصاراً اقتصادياً محكماً على هذه الحكومة كي تلتزم بما هو مطلوب منها، مع أننا لم نسمع من قبل أن واحداً من مكونات الديمقراطية هو الانصياع للإرادة الخارجية. ونجح هذا الحصار في إحداث مشكلات حقيقية لحكومة "حماس". ومن المؤسف أن تيارات فلسطينية على رأسها حركة "فتح"، قد شاركت في جهود فرض الإرادة الخارجية على حكومة "حماس"، بالإضافة إلى أن تلك التيارات- وإن سلمت "مفاتيح" السلطة لـ"حماس"- لم تسمح لها بممارسة هذه السلطة، بل حدث في أعقاب الانتخابات التشريعية ما هو معلوم من تكديس سلطات جديدة في جعبة الرئيس، لجعل حكومة "حماس" قوة هامشية أو حتى غائبة عن قضايا حيوية عديدة، كالأمن والإعلام والسياسة الخارجية. هكذا ضاعت منا فرصة تاريخية للتعرف على مدى كفاءة التيار الذي تمثله "حماس" وصدقيته في قضية التناوب الديمقراطي، طالما أن "حماس" أخذت تتفرغ في ظروف كهذه للدفاع عن نفسها بما أوصلنا الآن إلى شفا الاقتتال المسلح الشامل بين أكبر فصيلين للمقاومة في الساحة الفلسطينية. أما في الساحة اللبنانية، فقد ضغطت الإدارة الأميركية في أعقاب اغتيال الحريري عام 2005، من أجل إجراء انتخابات برلمانية تعيد صياغة المشهد السياسي في لبنان، وبالفعل أسفرت الانتخابات عن أكثرية معارضة لسوريا، وتم تشكيل حكومة على هذا الأساس عكست بأحد المعايير معنى حكومة الوحدة الوطنية على الأقل بحكم مشاركة "حزب الله" فيها. ثم وقع العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 وأسفر عن تغير في موازين القوى السياسية نتيجة الصمود التاريخي للمقاومة، والتي كانت لها تحفظاتها الأساسية على سلوك الحكومة قبل العدوان وأثناءه وبعده، الأمر الذي جعل قوى المعارضة- وعلى رأسها "حزب الله"- تضغط كي يكون لها "الثلث الضامن داخل الحكومة"، فإن لم يكن فإجراء انتخابات مبكرة، وهو ما رفضته قوى الوضع الراهن مستقوية بحلفائها الإقليميين والعالميين، مما أدى إلى نزول المعارضة للشارع على النحو الذي فتح آفاقًا جديدة على مشهد الحرب الأهلية. يلفت النظر في هذه الحالات الثلاثة أنه بينما تحاول قوى المقاومة في الحالتين العراقية واللبنانية زعزعة الوضع الراهن، فإن "حماس" في الحالة الفلسطينية هي التي تتمسك بهذا الوضع الذي يعطيها شرعية الحكم، وذلك مع ملاحظة أن المطالبة بتغيير الوضع الراهن تصب في الحالة العراقية باتجاه الخلاص من الاحتلال الأجنبي، بينما هي في الحالة اللبنانية تسعى لتكوين ميزان جديد للقوى يعكس وزنها الحقيقي في أعقاب التصدي لعدوان صيف 2006، ولذلك فإن الفارق الجوهري بين الحالتين يتمثل في أنه بينما يبدو مستحيلاً في الحالة العراقية أن تحقق قوى المقاومة أهدافها بدون استخدام العنف ضد الاحتلال، فإن قوى المقاومة في لبنان ليست بحاجة إلى هذا السلوك طالما أنها تعترف بأن خصومها شركاء في الوطن مهما رفضت سياساتهم. ولذلك يبدو التصعيد الأخير من جانب المعارضة اللبنانية في إضراب الثلاثاء الماضي، غريباً؛ فلم يكن الإضراب إضراباً بطبيعة الحال، إذ لا يعرف عن الإضراب سوى أنه امتناع عن العمل وليس قطعًا للطرق، وقد أعطى هذا السلوك- مهما تحدثت المعارضة عن انضباطها- فرصة لخصومها المرئيين وغير المرئيين للتدخل على النحو الذي أضاف للموقف بعداً بغيضاً، وهو ما حذر منه كثيرون منذ شهور، لأن ثمة فارقًاً كبيراً بين أن تكون المعارضة منضبطة في ذاتها وبين أن تكون مسيطرة على الساحة الوطنية بمجملها قادرة على التحكم في إيقاعها. تبدو الديمقراطية الآن عصّية على المشهد العربي كما لم يحدث من قبل، ويرجع هذا إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية، لكن الجديد في الساحة اللبنانية أن قوى المقاومة قد أفسحت الطريق بتحديها للإجراءات الديمقراطية لحدوث الفعل نفسه ضد حكومة كحكومة "حماس" بل ضدها هي نفسها في المستقبل، عندما تصل إلى السلطة ويقيض لخصومها الاستقواء بقوى داخلية وخارجية يمكن لها بالأسلوب نفسه أن تطيح بقوى منتخبة من مقاعد السلطة. فهل يمكننا ونحن نلمح بأعيننا شبح الحرب الأهلية ينتقل من بلد عربي لآخر أن نصل إلى كلمة سواء تحترم الآليات السلمية للديمقراطية دون أن تستخف بالقوى السياسية الفاعلة أو تقبل الوصاية أو الاحتلال الأجنبيين؟ أم أنه قُدر للديمقراطية الحائرة المترددة على الأبواب العربية أن تبقى عصّية على المنال حتى في هذه المحنة التي تجتازها الأمة، والتي يفترض معها أن تكون الديمقراطية في قلب أولوياتها كي تواجه المحنة وتنجو من آثارها الكارثية؟!