عاد لبنان مجدداً لصنع الأخبار والعناوين الصحفية الإقليمية والعالمية. وهناك تطوران رئيسيان وراء هذا الاهتمام الصحفي بالشأن اللبناني، أولهما تحول الإضراب العام الذي دعا إليه "حزب الله"، إلى ساحة للفوضى والعنف. وثانيهما، لقاء عدد من قادة الدول الغربية والعربية، برئيس الوزراء اللبناني في العاصمة الفرنسية باريس، والتعهد بتوفير ما قيمته 7.6 مليار دولار، كمساعدات مادية لبلاده في جهود إعادة الإعمار والبناء. وبين هذا وذاك، فإن هناك من يرى ازدياد عمق الصدع اللبناني بين المعسكرين المتخاصمين، وشركائهما الخارجيين. وهناك من يبدي مخاوف من أن تعزز حكومة فؤاد السنيورة موقفها وسياساتها المتشددة إزاء المعارضة، خاصة بعد تلقيها لتعهدات ووعود المساعدات المغلظة، الصادرة عن الرئيس بوش وغيره من قادة الدول الغربية. لكن في المقابل، فقد عززت المعارضة موقفها هي الأخرى ضد الحكومة، مسنودة في ذلك بمساعدات كل من سوريا وإيران. وعلى إثر إفلات "الجني الطائفي" من قمقمه، فإن الوضع هناك يبدو الآن مزعزعاً ومثيراً للقلق. على أن ثمة أملاً وطريقاً للحفاظ على وحدة اللبنانيين ولمِّ شملهم، على رغم الصدوع والتشققات الآنية. غير أن هذا لن يتحقق، إلا بتوفر الرؤية والإرادة السياسية، والدعم الدولي اللازم. أما في الوقت الراهن، فإن جميع هذه المقومات لم يتوفر منها ما يكفي لإحداث تغيير يذكر في الوضع الحالي. وبسبب كونه ضحية لنشأته في الأساس، فقد عانى لبنان طويلاً من مشكلات بنيته وتكوينه الديموغرافي. وهذا هو ما تتجلى آثاره اليوم، في شوارع بيروت وفي مقر الحكومة اللبنانية على حد سواء. ويبرز في هذا النزاع معسكران رئيسيان، لكل منهما قواعده وقادته، ويواصل كلاهما نزاعه الحامي والمزعزع لأمن البلاد واستقرارها مع المعسكر الآخر. والملاحظ أن كليهما يدعي لنفسه الشرعية المطلقة والحصرية. وضمن ذلك، يدعي كلاهما حق تمثيل إرادة الأغلبية، بينما يصف الآخر بأنه مجرد دمية سياسية في يد القوى الأجنبية. بل ويتهم كلاهما الآخر بالتورط في تدبير انقلاب يستهدف أمن البلاد واستقرارها. وإذا كانت هذه المواجهة قد أصابت لبنان بالشلل والعجز السياسي، طوال الأشهر القليلة الماضية، فإنها الآن تدفعه إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير. والذي يبدو الآن، هو كما أن لبنان نفسه متنازع على نفسه وكيانه بين تيارين، كلاهما يستقوى بقواعده الداخلية وسنده الدولي أو الخارجي، وقد عقدا العزم على شد لبنان ودفعه نحو الهاوية. ذلك هو ما تظهره استطلاعات الرأي العام اللبناني بكل وضوح. وأعمق ما تكون هذه الخلافات في المسائل المتصلة بمليشيات "حزب الله"، وبتعزيز وتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559. فهنا بالذات يشتد الخلاف ما بين واشنطن ودمشق، سلباً وإيجاباً في دعم الحكومة اللبنانية الحالية، أو معارضة تسمية أعضاء حكومة جديدة بديلة لها. لكن في المقابل، فإن هناك عناصر إجماع واتفاق واضح ومثير للدهشة فيما يتصل بعدة قضايا داخلية، على رأسها الهوية اللبنانية، وكذلك الإجماع على ضرورة تبني أجندة إصلاح سياسي وتنمية اقتصادية وطنية. إلى ذلك يتفق اللبنانيون أيضاً على ضرورة إصلاح نظامهم الانتخابي الحالي. غير أن المشكلة هي أن القادة اللبنانيين، على جانبي النزاع، وكذلك اللاعبون الدوليون والإقليميون، قد وجهوا جهودهم واهتمامهم إلى ما يفرِّق بين اللبنانيين وليس ما يوحِّد بينهم. وكان من المفترض أن يتم التصدي لهذه القضايا الوحدوية، في أعقاب نهاية الحرب الأهلية مباشرة، أو عقب مغادرة القوات السورية للبنان. وبالنظر إلى حدة التوترات والمواجهات الدائرة حالياً بين المعسكرين، فإنه يصعب جداً التوصل إلى أرضية مشتركة للحوار بينهما. على أن ذلك لا ينفي أهمية عدم تجاهل حقيقة أنه ليس ثمة منتصر أو مهزوم في النزاع الحالي. وفي سبيل التوصل إلى مصالحة وتسوية للنزاع الداخلي، فإنه لابد من إصلاح النظام الانتخابي الحالي، وتعزيز الحكومة المركزية القائمة، شريطة الاعتراف بضرورة عدم وجود أي قوات عسكرية أو مليشيات مسلحة خارج سيطرتها، وأن يراعي الدستور اللبناني الطبيعة الاستثنائية الخاصة للبلاد. ويقتضي ذلك، ألا تكون هناك هيمنة للأغلبية على الأقليات، أياً كان تعريف تلك الأغلبية.