يحتفي العالم أيما احتفاء، بأولئك النبلاء العظماء الذين خاطروا بحياتهم من أجل إنقاذ اليهود من الإبادة الجماعية إبان الحرب العالمية الثانية. وبالقدر ذاته، يستحق الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الاحتفاء بجهوده الكبيرة النبيلة التي بذلها في إنقاذ الفلسطينيين من مساعي إسرائيل الوحشية للقضاء عليهم وإبادتهم من على وجه الأرض. صحيح أن "كارتر" لم يخاطر بحياته، عندما اجترأ على تأليف كتابه الأخير "فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري"، إلا أنه واجه حملة قوية هدفت لاغتيال شخصيته، من قبل الجماعات اليهودية، إلى جانب تعرضه للهجوم الجارح من قبل بعض زملائه "الديمقراطيين"، من أمثال "نانسي بيلوسي"، رئيسة مجلس النواب الأميركي، يؤازرهم بعض زملائه السابقين بمركز "كارتر" في مدينة أطلنطا، بولاية جورجيا. يذكر أن هذا المركز قد أنشأه "كارتر" خصيصاً بدافع حفز تسوية النزاعات، ومراقبة العمليات الانتخابية، فضلاً عن الإبقاء على عملية السلام الإسرائيلي- الفلسطيني حية ومستمرة. وعلى أي حال، فإن المصير الذي آلَ إليه "كارتر"، إنما يكشف في وجه من وجوهه، عن مدى الخطر الذي يمكن أن تتعرض له شخصية عامة، ما أن تثير ثائرة اللوبي الصهيوني وأنصاره الكثر في الولايات المتحدة الأميركية. وقد ألب استخدام المؤلف لعبارة "التمييز العنصري" في العنوان، وكذلك تكرار استخدامها أكثر من مرة في متن الكتاب، أشد الجماعات اليهودية تطرفاً ومغالاة في انحيازها لإسرائيل. غير أن "كارتر"، وبصفته مثالاً للسياسي النزيه بحق، أبى إلا أن يسمي الأشياء بأسمائها، سواء رضيت تلك الجماعات أم أبت. ولذلك فهو لم يتلجلج في وصفه للسياسات الراهنة التي تتبعها الحكومة الإسرائيلية، بأنها "نظام للفصل العنصري" حيث تعيش مجموعتان ثقافيتان عرقيتان جنباً إلى جنب، ولكنهما تنفصلان عن بعضهما بعضاً، أشد ما يكون الانفصال، ويسود الإسرائيليون على جيرانهم الفلسطينيين، بأدوات العنف والقمع الوحشي، وبتجريد الفلسطينيين من أبسط حقوقهم الإنسانية. إلى جانب كون كارتر الرئيس الأميركي الأسبق، خلال الفترة من 1977- 1980، فهو مسيحي متدين ورع. ومن ذلك التدين ينبع إيمانه العميق بقضية سلام الشرق الأوسط. وكما ورد على لسانه: "فقد نهلت من تعاليم الكتاب المقدس منذ بواكير طفولتي، ولكوني قد درّست التعاليم ذاتها لغيري، على امتداد عشرين عاماً، فقد كان طبيعياً أن يولع قلبي كل هذا الولع بالأرض المقدسة". وأثناء زيارة مبكرة له للأردن، وقبل أن يصبح رئيساً لبلاده، وصف لنا "كارتر"، كيف أنه ألحَّ على الغطس والسباحة في نهر الأردن، حيث ظل على قناعة راسخة بأنه النهر الذي جرى فيه تعميد السيد المسيح عليه السلام. غير أن ثمة منبعاً سيكولوجياً كذلك لكل هذا الحماس الذي يبديه "كارتر" للتسوية العادلة للقضية الفلسطينية. ومرد هذا الشعور إلى نقمة "كارتر" وغضبه من رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، مناحيم بيجن. "كارتر" كان هو من صمم وهندس اتفاقيات كامب ديفيد، المبرمة في عام 1978، بين مناحيم بيجن من جهة، والرئيس المصري الراحل أنور السادات، وهي الاتفاقيات التي مهدت الطريق لاحقاً لإبرام معاهدة السلام الإسرائيلية- المصرية، بعد عام واحد من كامب ديفيد. وكانت اتفاقيات عام 1978 قد نصت ضمن بنودها على "الاستقلال الذاتي التام لسكان الأراضي المحتلة، وانسحاب القوات المدنية والعسكرية الإسرائيلية من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، فضلاً عن الاعتراف بالشعب الفلسطيني، باعتباره كياناً سياسياً مستقلاً، له كامل الحق في تقرير مصيره بنفسه". هذا وقد شكلت تلك البنود، خطوة على قدر كبير من الأهمية باتجاه الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية. وكان "كارتر" قد اعتقد أنه حصل على وعد من مناحيم بيجن بتجميد بناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية، إبان المحادثات بشأن تقرير الوضع النهائي لأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي المحادثات التي يفترض أن يشارك فيها الفلسطينيون على أساس التكافؤ والندية مع الإسرائيليين، حسبما نصت بنود الاتفاقيات، إلا أن الشاهد أن "بيجن"، إما ابتلع وعده وكلمته، أو حنث بهما صراحة. ومن هنا وفي فقرة من الفقرات التي مارس فيها "كارتر" ضرباً حاداً من ضروب النقد الذاتي، كتب قائلاً في مؤلفه الأخير: "لعل مبلغ الضعف في محادثات كامب ديفيد كلها، كان الإخفاق في تدوين وعد بيجن الشفوي المتعلق بتجميد بناء المستوطنات الفلسطينية، وتوضيحه كتابةً". وعلى رغم وضوح وبساطة اللغة التي استخدمها "كارتر" في كتابه المذكور، فإن هذا الشعور الطاغي بالغضب من السلوك الإسرائيلي، ظل كامناً ومتقداً بين سطوره جميعاً. وضمن ذلك، وصف "كارتر" في كتابه، كيف أنه أرغم تل أبيب على الانسحاب من لبنان، إثر غزوه في عام 1978، وذلك بتهديدها بإبلاغ الكونجرس، باستخدام إسرائيل غير المشروع للأسلحة الأميركية. غير أن تل أبيب عاودت غزوها للبنان مجدداً في عام 1982، في ظل إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريجان. وما أن عبر "كارتر" عن قلقه إزاء ذلك الحدث، حتى جاءته الإجابة الصاعقة، الأكثر إثارة للحيرة والقلق: "لقد منحتنا واشنطن الضوء الأخضر"! وسرد "كارتر" عشرات الجرائم التي يرتكبها النظام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين، بما فيها ممارسات الهدم العقابي لبيوت الفلسطينيين، واعتقالهم بالجملة، واجتثاث وتخريب الآلاف من المزارع وأشجار الزيتون العريقة، والإغلاق المُتعمد والمتكرر للجامعات والمدارس الفلسطينية، ومصادرة المساعدات الإنسانية العربية والدولية المقدمة للفلسطينيين. وفوق ذلك كله، التسارع والتوسع في احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية. ويندرج تحت هذه الجرائم العنصرية، جدار العزل الأمني، الذي لم يتردد المؤلف في وصفه بأنه "جدار السجن" الإسرائيلي. وكان "كارتر" قد التقى قادة حركة "حماس"، عشية انتخابات يناير 2006، التي فاز فيها مرشحو "حماس"، وحضهم على نبذ العنف. ومن بين هؤلاء القادة، محمود الزهار، الذي نسف بعض أنصار منظمة "فتح" منزله مؤخراً. ولم تكن هذه الحادثة، سوى آخر فصول الاحتراب والتطاحن الداخلي الفلسطيني. أما على الصعيد الإسرائيلي، فقد اتسمت رسالة "كارتر" التي وجهها عبر كتابه المذكور، بالوضوح التام: فلا أساس يمكن أن تقوم عليه عملية السلام المنشود، إلا بانسحاب إسرائيل إلى حدود ما قبل عام 1967، وهي الحدود المعترف بها دولياً، وفق ما حددها قرار الأمم المتحدة رقم 242، وهي ما وعدت به كذلك، اتفاقيتا كامب ديفيد و"أوسلو"، وما أقرته "الرباعية الدولية". ربما كان السلام سيحل أخيراً بأرض فلسطين، فيما لو كان "كارتر" اليوم ما زال في البيت الأبيض. غير أن الحقيقة المؤسفة هي أنه لم يعد قبطاناً لسفينة بلاده.