كان من المنتظر أن يكون مؤتمر "باريس- 3" العربي والدولي لدعم لبنان اقتصادياً وسياسياً هو الحدثُ الأبرز والأكثر إيجابيةً منذ حرب تموز. بيد أنّ الإضراب العامّ الذي دعت إليه المعارضة يوم الثلاثاء في 23/1، والأحداث التي جرت ببيروت يوم 25/1 خلال يوم مؤتمر باريس دفعا كثيرين من المشاركين بمؤتمر باريس من العرب والأوروبيين للقول: نحن نريد أن ننقذ لبنان، واللبنانيون لا يريدون إنقاذَ أنفُسِهِمْ! بدأت القصةُ حين تعقَّدت الأزمة السياسية بلبنان، وجاء عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية إلى بيروت، وطوَّر في اتصالاته أفكاراً تحت عنوان: لا غالب ولا مغلوب. وتقوم مقولة اللاغالب واللامغلوب على التوازُن والتلازُم والتزامن، كما اعتاد الرئيس فؤاد السنيورة على القول، أي إقرار قانون المحكمة الدولية في مجلس النواب بالتزامن مع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية المكوَّنة من ثلاثين وزيراً فيها 19 للأكثرية من كل الطوائف، وعشرة للمعارضة من الشيعة والمسيحيين، ووزيرٌ واحدٌ مُحايدٌ يكونُ غالباً من طائفة الروم الأرثوذكس. ويتلو تشكيل الحكومة البدء بالبحث في انتخابات رئيس الجمهورية، وقانون الانتخابات النيابية بدون مُدَدٍ للانتهاء من ذلك. وعندما لاحظ عمرو موسى أنّ هناك تقارُباً بين الأطراف حول هذه الأفكار، ذهب إلى مصر والسعودية... وسوريا التماساً للدعم؛ وفي حين حصل من السعوديين والمصريين على ذلك، عاد من سوريا متشكِّكاً، لأنّه لاحظ هناك أنهم لا يريدون المحكمة بأي شكل، لا قبل الحكومة ولا بعدها. وما قال الأمين العامُّ شيئاً طبعاً في العلن؛ لكنه ما استطاع منع نفسه من تكرار مقولة نبيه بري رئيس مجلس النواب على سبيل التفكُّه: لا حلَّ للأزمة إلاّ إذا تحدَّث سين (=السعودية)مع سين (=سوريا)! وغادر الأمين العام للجامعة لبنان قبل شهرين وتصاعدت خلال الأسابيع الماضية التوتُّرات. فأنصارُ سوريا وعون ضغطوا باتجاه التصعيد بعد أن مضى على معتصميهم زُهاء الخمسين يوماً دونما جدوى. كانوا يأملون أن تسقط الحكومةُ أو تتزعزع؛ لكنَّ شيئاً لم يحدُثْ، وها هو الرئيس السنيورة يمضي إلى باريس بعد عشرة أيامٍ لتحقيق انتصارٍ جديدٍ يجعل حركتهم بدون معنى. وأحسَّ كثيرون بالضغط السوري على "حزب الله" للمزيد من الحركة ضد الحكومة. وتزايدت الاتصالات السعودية والإيرانية بمبادرةٍ من إيران. وجاء لاريجاني إلى سوريا ثم مضى إلى السعودية على مشارف قرار المعارضة بزعامة "حزب الله" القيام إلى جانب الاعتصام بإضرابٍ عامّ. واللافت أنه قبل الإضراب بيومين أجرى السيد نصرالله مقابلةً مع تلفزيون "المنار" كرر فيها اتهاماتٍ قديمةً، وأضاف جديداً بارزاً. الاتهامات القديمة مثل التواطؤ والتآمر مع أميركا من جانب الفريق الحاكم(!) وعدم الإسراع في الإعمار، والغرق في الفساد. أمّا الجديد فأبرزُهُ أمران: الذهاب إلى أنّ من ضمن مؤامرة الشرق الأوسط الجديد الأميركية، هناك جزءٌ يتعلقُ بتهجير أهل الجنوب (=الشيعة) من المنطقة الجنوبية، وترحيلهم على البواخر، نعم على البواخر، وإحلال آخرين محلَّهم، والأفظع من ذلك أنّ الفريق الحاكم أو بعضَه مُشاركٌ في المؤامرة بدليل أنه كان يريد مَنْعَ المهجَّرين من العودة إلى الجنوب بعد توقف الأعمال العدائية! والجديد البارزُ الآخر وعشية مؤتمر باريس أنّ السيد نصرالله غيَّر رأيه في المؤتمر. فبعد أن كان موافقاً عليه إن لم تصحبْهُ التزاماتٌ سياسية، صار يعتبره كلّه مُضِراً بلبنان، ويرى أنّ عدم حدوثه خيرٌ من حدوثه. والواقع أنّ هذا التغير في موقف السيد نصرالله عشية مؤتمر باريس، والإقبال بحماس على الإضراب العامّ، عكس بشكلٍ من الأشكال تجاوباً مع رغبةٍ سوريةٍ قويةٍ بتفشيل السنيورة، ونشر الفوضى بما يؤدي إلى سقوط الحكومة أو الاضطرار لإعلان الطوارئ وسيطرة الجيش، وإمكان استعادة لحود بعض سلطاته باعتباره القائد الأعلى للجيش حسب الدستور. والدليلُ على أنّ الأمر ما كان مجرد إضراب أو دعوة إليه أنّ "حزب الله" وحركة "أمل" و"التيار الوطني الحُر" وتيار "المردة" و"الحزب السوري القومي"، وفي سائر أنحاء لبنان عمدوا منذ الصباح الباكر لسدّ الشوارع الرئيسية بالإطارات المشتعلة والسواتر الترابية، وطافت مجموعاتٌ منهم تحاولُ إقفال المحالّ في المدن الكبرى والبلدات. وشدَّد هؤلاء الحصار على بيروت بالذات ومن سائر النواحي، وبالسواتر التُرابية والإطارات المشتعلة، ثم بدأوا بعد الظُهر بإقامة خيامٍ على طريق المطار وطريق الجبل لإشعار أهل بيروت أنّ هذا "الحصار" طويل. بيد أنّ الأمر حُسِمَ في مكانٍ آخر. حُسِمَ في شرق بيروت من جانب العناصر التابعة لسمير جعجع وحزب "الكتائب"، في مواجهة عناصر الجنرال عون وسليمان فرنجية و"الحزب السوري القومي". في الصباح الباكر، أصرَّ الجيش على حماية متظاهري عون وفرنجية الذين كانوا يسدُّون الطرقات الرئيسية على طول الطريق الساحلي من بيروت إلى شمال لبنان. لكنه اضطُرَّ للوقوف على الحياد بعد الظُّهر فاكتسح "القواتيون" و"الكتائب" تجمعات عون وفرنجية والقوميين في سائر أنحاء المناطق المسيحية. وحُسِم فيما بين الرياض وطهران. فقد اتصل الإيرانيون بـ"حزب الله" وبنبيه بري طالبين إنهاء الإضراب وكلَّ مظاهره عشية الثلاثاء. وهكذا فعندما اجتمعت المعارضةُ مساءً، كان جناحُ الجانب المسيحي مهيضاً، بحيث لو استمر الإضراب فسيبدو صراعاً من جانب الشيعة ضد السُّنة، لغياب الطرف المسيحي أو هامشيته. فجرى الإعلانُ عن إيقاف التحرك، مُرفقاً بتهديداتٍ من السيد حسن نصرالله في كلمةٍ بمناسبة دخول زمن عاشوراء، أنّ التحركات المستقبلية ستكون أشدَّ هَولاً، دون أن يحدِّد ما هي! .. وذهب الرئيس السنيورة صبيحة الأربعاء إلى باريس كأنّ شيئاً لم يكن. بيد أنّ حصار الثلاثاء لبيروت ما مضى بدون أثرٍ على أهل بيروت المسكونين بالهواجس، والذين ازدادت مشاعرُهُم (هم والسُّنة الآخرون) سلبيةً تُجاه "حزب الله" منذ نظَّم تظاهُراتٍ هائلةً لتوديع السوريين عند خروجهم على أثر استشهاد الرئيس الحريري، وصولاً إلى حرب تموز، وخروج الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة، ثم الاعتصام ضد حكومته منذ أكثر من شهرين في مقابل السراي. فقد سدَّ "حزب الله" يوم الثلاثاء -ومعه عناصر قليلة من "أمل" و"الحزب القومي"- مداخل العاصمة من كل النواحي، ثم تقدموا في الشوارع الداخلية الرئيسية ناشرين الإطارات المحترقة ومستوعبات القمامة لسدّ الطرقات، وما ترددوا في الاشتباك مع أهل المدينة لمنعهم من المرور أو فتح محالِّهم. ولذلك فعندما سرَتْ شائعةٌ ظُهرَ يوم الخميس -والرئيس السنيورة يحصد المساعدات للبنان بباريس- أنّ نزاعاً حصل بين طلابٍ سُنةٍ وشيعة بجامعة بيروت العربية (على طرف "الطريق الجديدة" الحي السُّنّي الرئيسي ببيروت)، وأنّ مسلَّحين يتدفقون باتجاه الحيّ لاحتلاله، ظن كثيرون من أهل بيروت أن ما يجري إكمالٌ لما كان يوم الثلاثاء؛ فاحتشد مئاتُ الشبان للدفاع عن الحي، وحاولوا الدخول إلى باحة الجامعة لمساعدة زملائهم.. وامتدَّ التوتر والنزاع إلى الأحياء المختلطة فسُدَّت الشوارعُ من جديدٍ في زقاق البلاط ومار إلياس وطريق المطار. وكلُّ ذلك والجيش حاضرٌ لكنه لا يتدخل إلاّ لماماً، شأنه فيما حصل يوم الثلاثاء. وعند الثالثة بعد الظُّهر كان ستةُ شبانٍ قد سقطوا بالرصاص أو بالضرب من الطرفين، وجُرح العشرات. وبدأت بياناتُ التهدئة تصدر عن سعد الحريري ونبيه بري و"حزب الله"، ثم أذاع السيد نصرالله كلمةً حازمةً بشأن الخروج من الشارع والفتنة. وعند السادسة مساءً كانت القياداتُ السياسيةُ قد أجمعت على أن يتدخل الجيش ويمنع التجول ابتداءً من الثامنة والنصف في سائر أنحاء العاصمة، وهكذا كان. هل كان ما حدث يوم الخميس مصادفة كما يُشْعِرُ عرضي هذا؟ أم أن هناك أطرافاً أرادت في محاولةٍ أخيرة التأثير على صورة "باريس-3"، أم أنّ هناك أطرافاً أرادت الانتقام لما حصل يوم الثلاثاء إذ فاجأهُم ذاك الحصارُ على غير استعداد؟! كلُّ الاحتمالات سالفة الذكر واردة. وما أزالُ أرجّح المصادفة مع احتدام الأمزجة وهَول الشكوك المتفاقمة. وقِدْماً جرت حربٌ درزيةٌ/ مسيحيةٌ عمَّت الجبلَ كلَّه لأنَّ طفلين في "بيت مري" تنازعا على كُرة! حصل الرئيس السنيورة في مؤتمر "باريس- 3" على حوالى الـ8 مليارات دولار دعماً للبنان واقتصاده وإعماره. وتنافس العرب والأوروبيون والأميركيون والآسيويون في الثناء على نهجه وهدوئه واعتداله. بيد أنه عندما تحدث مساءً إلى إحدى القنوات التلفزيونية اللبنانية على مشارف عودته إلى بيروت ما وجد ما يقولُهُ عن التهدئة والحلول غير اجتماع مجلس النواب اللبناني، وعودة عمرو موسى لمتابعة وساطته. والذي أراهُ أنّ الأمر تجاوز هذه الخطوات العادية. فلابُدَّ من تصرفٍ عربيٍ لكفّ الشرّ الآتي من (الشقيقة) سوريا. ثم لابُدَّ من تحاوُرٍ وتفاهُماتٍ جادّة بين الطرفين السُّني والشيعي. فللأسف، تضاءل التأثير المسيحي بسبب الانقسام فيما بينهم، وما عادوا يستطيعون القيام بدور الحكَم بعدما أنزله بهم كلٌّ من لحود وعون. ولله في خَلْقِه شؤون، سلَّم الله لبنان.