تستعد تركمانستان في الأسبوع الثاني من فبراير القادم لاختيار زعيم جديد لها خلفاً لرئيسها الراحل "صابر مراد نيازوف" الذي توفي فجأة في 21 ديسمبر من العام الماضي، وسط توقعات بعدم حدوث تغييرات جذرية قريبة في هذا البلد لجهة إخراجه من عزلته وتدشين عهد جديد يتصف بقدر من الديمقراطية والحريات واحترام حقوق الإنسان. ولهذه التوقعات بطبيعة الحال أسانيد كثيرة، على رغم وجود بعض المتفائلين الذين يقولون إنه مهما بقيت الأمور على حالها في عهد الرئيس القادم فإنها لن تكون بنفس الدرجة من العزلة التي تميز بها عهد نيازوف. فالأخير الذي حكم تركمانستان منذ عام 1985، أي قبل أن تنسلخ في عام 1991 عن الاتحاد السوفييتي وتصبح إحدى جمهوريات آسيا الوسطى المستقلة، لم يواصل إدارة البلاد حتى وفق النهج السوفييتي، وإنما أقام نظاماً نصب فيه نفسه منذ عام 1999 رئيساً مدى الحياة. تشهد على ذلك سياساته في الاستئثار بكل الصلاحيات، والقمع المتواصل للمعارضة بشقيها الإسلامي والعلماني، وتجريم إنشاء الأحزاب السياسية، ومنع الأجانب من دخول البلاد، وتقييد سفر مواطنيه إلى الخارج، وغير ذلك من الممارسات. لم يفكر "نيازوف" في اختيار خليفة له، بل ألغى كل ما له علاقة بالانتخابات الرئاسية، ولم يضع قواعد دستورية لانتقال السلطة بطريقة سلسة في حالة غيابه، سوى ما ذكر على استحياء في الدستور حول تولي رئيس البرلمان لسلطات الرئيس في حالة غياب الأخير ريثما يتم انتخاب البديل. ومن هنا لم يكن غريباً أن يترك رحيله فراغاً هائلاً، وأن يسارع أعوانه بمجرد وفاته إلى تغيير الفقرة الدستورية السابقة للحيلولة دون تولي رئيس البرلمان للسلطة، ومن أجل الإتيان بنائب رئيس الوزراء ووزير الصحة "قربان غولي بيردي محمدوف". والأخير طبيب أسنان لم يتجاوز الخمسين ولم يسمع به إلا مؤخراً، لكن صعوده المفاجئ اعتبر مؤشراً على روابطه بالرئيس الراحل، بل اعتبر دليلاً على براعته في ظل نظام كان يتوجس من أقرب المقربين له، ويقوم من وقت إلى آخر بإجراء تنقلات في صفوف وزرائه ومعاونيه خوفاً من بروز أحدهم واكتسابه لمحبة الناس. ولأن تركمانستان لا تملك تجربة سابقة في الانتخابات الرئاسية الحرة ذات الطبيعة التعددية، ولأن محمدوف يملك من الأدوات والأجهزة ما لا يملكه الآخرون، وعلى رأسها الإعلام الرسمي الذي تحول من تمجيد نيازوف إلى الإشادة المفرطة بمناقب الرئيس الانتقالي، فإن معظم المراقبين يعتقدون أن الأخير هو الأوفر حظاً في الفوز بالزعامة من بين خمسة متنافسين آخرين اختيروا من قبل ما يسمى بالمجلس الشعبي. والمجلس الشعبي ليس سوى مجمع انتخابي مكون من نحو ثلاثة آلاف عضو، وكان يجتمع مرة كل عام للمصادقة على سياسات نيازوف "الحكيمة" دون مناقشة، بل هو الذي وافق بالإجماع على بقاء الأخير رئيساً مدى الحياة، وبالتالي لم يكن وارداً لديه الاستجابة لمطالب المعارضة بترشيح واحد من رموزه على الأقل مثل "نور بيردي نور مامدوف" الذي اعتقلته السلطات في 23 ديسمبر الماضي وهو خارج من منزله. على أن ما يعزز فرص محمدوف بالفوز لا يقتصر على ذلك. فالرجل يبدو مدعوماً بقوة من موسكو التي تعتبر صاحبة اليد الأقوى في تركمانستان ضمن لعبة النفوذ التي تشترك فيها أيضاً كل من الصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإيران وتركيا. والجدير بالذكر أن نيازوف حاول في التسعينيات استغلال أوضاع روسيا غير المستقرة للتخلص من نفوذ موسكو وإكساب بلاده صفة الدولة المحايدة مع تنويع شركائها الاقتصاديين المهتمين بثرواتها الهائلة من الغاز الطبيعي. غير أن استتباب الأمور في روسيا وظهور زعيم قوي مثل فلاديمير بوتين، فضلاً عن العوامل التاريخية والجيوسياسية، حال دون ذلك. وأفضل دليل على ما نقول هو أن موسكو حسمت في سبتمبر 2006 هيمنتها على ثروات تركمانستان من الغاز، وسيطرتها على خطوط التصدير من خلال اتفاقية ما بين شركتها العملاقة "غازبروم" وحكومة عشق آباد. وبسبب أهمية تركمانستان في استراتيجيات الطاقة الروسية، على اعتبار أن جزءاً لا يستهان به مما تبيعه موسكو عبر"غازبروم" إلى أوكرانيا ومنها إلى دول أوروبية أخرى يأتي من هذا البلد، سارع الروس بمجرد وفاة نيازوف إلى دعم الرئيس الانتقالي محمدوف، على أمل ألا تحدث تغييرات تمس نفوذهم أو تقلصه لصالح لاعبين دوليين أو إقليميين آخرين. أما محمدوف فقد حرص من جانبه على التأكيد بأنه سيسير على مبادئ وخطى الرئيس الراحل، وهو ما يشاركه فيه المرشحون الرئاسيون الآخرون الذين لم يتطرقوا خلال حملاتهم الانتخابية إلى مسائل الإصلاح السياسي والدمقرطة وحقوق الإنسان والتصالح مع رموز المعارضة الموجودين في الخارج، واكتفوا بوعود اقتصادية واجتماعية ومعيشية. والحقيقة أن تلك الوعود وحدها كشفت كم كانت حقبة "نيازوف" ما بين عامي 1991 و2006 بائسة. فأن يعد المرشح الرئاسي شعبه بأشياء من قبيل تحديث التعليم، وبناء المساكن الشعبية، ومنح القروض المصرفية، والبدء في الخصخصة، وتحديث شبكات المواصلات، والاهتمام بثورة الاتصالات وإنجازاتها المعرفية، وإتاحة التواصل مع العالم الخارجي، وتشجيع إقامة مؤسسات الأعمال الخاصة الصغيرة والمتوسطة، وإحداث نظام للتقاعد، وغير ذلك مما ورد في الحملات الانتخابية، فمعناه أن الشعب كان محروماً من كل تلك الأشياء أو لم تكن موفرة له. على رغم كل ما سبق، يبقى تدشين انتخابات رئاسية تعددية في هذه البلاد لأول مرة، أمراً لافتاً للنظر، ومؤشراً على انتهاء حقبة وبداية أخرى جديدة. وبقدر ما تكون هذه الحقبة الجديدة مختلفة عن سابقتها لجهة التجاوب مع تطلعات المواطنين في نظام سياسي أكثر انفتاحاً واحتراماً لحقوق الإنسان، بقدر ما تتراجع احتمالات الانزلاق نحو الفوضى واللااستقرار من بعد فترة الهدوء الحالية التي تعزو المعارضة أسبابها إلى فجائية غياب نيازوف وعدم الاستعداد له.