المشهد، كما وصفه د. وحيد عبدالمجيد، وكما شاهده الكثيرون، كان مكانه جامعة الأزهر يوم 5/12/2006، وأبطاله عشرات من طلاب هذه الجامعة ينتمون إلى جماعة "الإخوان المسلمين": ظهر هؤلاء الطلاب في الحرم الجامعي وأمام مكتب نائب رئيس الجامعة، مرتدين ملابس سوداء شبه عسكرية وأقنعة مخيفة، لا يبدو من خلفها إلا عيون تشع غضباً وتتقدُ ناراً، وقاموا باستعراض مهاراتهم القتالية في فنون "الكاراتيه والكونغ فو"، على وقع أناشيد وأغنيات "جهادية"، تنبعث من أجهزة "دي جي" مرتفعة الصوت". (الاتحاد الإماراتية، 21/12/2006). أثارت الواقعة الصحافة والإعلام وسلطات الأمن في مصر كما هو متوقع، وقامت الدولة من خلال النيابة بإصدار قرار بحبس 140 من قيادات وطلاب جماعة "الإخوان" 15 يوماً على ذمة التحقيق، على رأسهم النائب الثاني للمرشد محمد خيرت الشاطر، فيما أكد مجلس جامعة الأزهر "ضرورة اتباع استراتيجية جديدة لمنع اختراقها من قبل أي تيار ديني أو جماعة تسعى لنشر أفكارها الهدَّامة بين طلاب الجامعة". وقد حمَّل د. أحمد الطيب رئيس الجامعة، جماعة "الإخوان المسلمين" المسؤولية عما حدث بجامعة الأزهر. وقال في مؤتمر صحافي عقده يوم 18/12، "إنه لن يتدخل ولن يسمح لأحد بالتدخل للإفراج عن هؤلاء الطلاب قبل أن تأخذ العدالة مجراها، لأن هؤلاء الطلاب قد أجرموا في حق الأزهر الذي يعد منبراً للوسطية والاعتدال، وأنهم صُوِّروا أمام العالم كله وهم يشكلون ميليشيات إرهابية بأن جامعة الأزهر جامعة إرهابية وتصدر الإرهاب والفكر المتطرف". (الشرق الأوسط، 19/12/2006). تذكرت وأنا أقرأ تفاصيل هذه الواقعة بعض ما حدث في مصر عندما هيمنت "الجماعة الإسلامية" على الحياة الأكاديمية في بعض جامعاتها خلال ثمانينيات القرن الماضي. يروي د. عبداللطيف عبدالمحسن، وكيل كلية الهندسة بجامعة أسيوط، واقعة عن استعراض طلبة "الجماعة" لنفوذها العسكري وهيمنتها الحزبية، فيقول: "طلبت مني جماعة من الطلبة الاعتصام لمدة ساعة احتجاجاً على تعذيب زميلهم محمد بكير على يد الجماعة الإسلامية، فسمحتُ لهم. ثم فوجئت بأصوات صراخ الطلبة والطالبات في الفناء، فألقيت نظرة من النافذة، وفوجئت بمشهد لم أرَه إلا في أفلام السينما. شاهدت مئات من أعضاء الجماعات الإسلامية في صفوف متراصة داخل فناء الكلية، يحملون المدى والجنازيز والعصي، وأميرهم ينظِّمهم بأوامر غريبة قائلاً: الميمنة تتحرك، والميسرة تستعد، والقلب يهاجم. وتقدمت هذه الصفوف في خطوات قتالية على مجموعة الطلبة المعتصمين، وأخذوا يضربونهم ويطاردونهم داخل حجرات الكلية وهم يرددون: "الله أكبر، الجهاد.. الجهاد"، من خلال ميكروفونات يحملونها"! ويضيف، إنه حاول النزول لنجدة الطلاب، ولكن زملاءه منعوه خوفاً من الاعتداء عليه، وأغلق الأساتذة المكاتب على أنفسهم تحسباً من الاعتداء. (جماعات التكفير في مصر، د. عبدالعظيم رمضان، ص 386). ومن المستبعد بالطبع، أن يمارس طلبة "الإخوان" شيئاً كهذا، وإن كنا نجهل اليوم مدى ما سيلتزمون به من تصريحات قياداتهم في إدانة اللجوء إلى القوة والعنف، إذا تزعزعت السلطة أو اختلت الموازين أو اشتدت الأزمة السياسية في مصر. فـ"الإخوان" كما هو معروف، لم يروا بأساً في استخدام العنف مع السياسة منذ تأسيس الجماعة. ومن الكلمات التي تقتبس دائماً عن مؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا في رسالته للمؤتمر الخامس، يناير 1939، قوله: "إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً". فهل كان استعراض طلبة الإخوان في جامعة الأزهر بعض مقدمات هذا "الإنذار"؟ بل لقد كان المرشد البنا قد كتب في "النذير"، مجلة "الإخوان"، أغسطس 1938، يخاطب أنصاره من الشباب المتحمِّس المتعجِّل للزحف، ويقول: "في الوقت الذي يكون فيه منكم -معشر الإخوان المسلمين- ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسها روحياً بالإيمان والعقيدة، وفكرياً بالعلم والثقافة، وجسمياً بالتدريب والرياضة، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض معكم لجج البحار، وأقتحم بكم عنان السماء، وأغزو بكم كل عنيد جبَّار، فإني فاعل إن شاء الله". (الإخوان المسلمون، د. زكريا بيومي، ص 90). وقد حاول "الإخوان". كثيراً كسب ود "الأزهر" واستخدام إمكانياته لخدمة أهدافهم، وقد ظهرت في بداية الحرب العالمية الثانية دعوة لتآلف الجماعات الإسلامية، في مصر، والأزهر. فقد انقسم المعسكر الأوروبي، وتصور البعض أن هذا الانقسام يتيح الفرصة لكي يتخلص المسلمون من الاستعمار الأوروبي، ومن هنا كان ثمة ميل لاشعوري إلى "دول المحور" ظهر بين أتباع الجماعات الإسلامية بصورة أوضح من القطاعات الأخرى، وقد مهَّد "الإخوان" لربط الأزهر بهذا التيار، فطالبوا الشيخ المراغي بانتهاز فرصة تقرب إيطاليا وألمانيا واليابان من الإسلام، وأن يبعث بالدعاة إلى هناك مهما كان غرضهم من هذه الدعوة، وأن "الإخوان" مستعدون لإرسال شبابهم لتلك المهمة ولو بطريق غير رسمي، وعلى شيخ الأزهر فتح الباب الرسمي. وقد حقق "الإخوان" نجاحاً في ربط الأزهر بهذا الاتجاه، فكانت المظاهرات تخرج مطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية معلنة عداءها للإنجليز، وأخرى تدعو للثورة ضدهم والوقوف بجانب رشيد عالي الكيلاني في العراق. اهتم "الإخوان" مبكراً بكسب الشباب والطلبة إلى صفوف الجماعة، وإذا كان البعض قد فسر قدرة انتشار "الإخوان" بين الفلاحين والعمال بأن هذه الطبقات خاضعة للتأثير الديني، فإن كسب أنصارٍ للجماعة بين طلبة الجامعة المصرية كان ظاهرة جديدة غير متوقعة. كان غزو "الإخوان" للجامعة وتمكنهم من ضم طلابها في أعقاب انتقال مركز الجماعة للقاهرة، ولم ينضم للجماعة في سنيها الأولى من الطلاب إلا القليل، نحو خمسمائة، قبيل الحرب العالمية الثانية، كان أكثرهم من جامعة الأزهر ومعاهدها الدينية. ومن الملاحظ أن أقسام تدريس الشريعة أو كلياتها قد لعبت أدواراً مماثلة في دول عربية أخرى كسوريا مثلاً. وعندما اخترقت جماعة "الإخوان" الجامعة المصرية طالب الشيخ طنطاوي جوهري، وكان رئيس تحرير جريدة "الإخوان" الأسبوعية، المرشد حسن البنا بالعودة السريعة من إحدى رحلاته بالوجه البحري، ليشرف على "الفتح المبين"، أي انتساب مجموعة من طلاب الجامعة المصرية إلى الحركة. يقول أحد أبرز مؤرخي وقادة "الإخوان" عن أهمية هذا الاختراق: "لقد كان دخول الدعوة الإسلامية كليات الجامعة أشبه برجل فقير وُلد له ولد، فجاء قوم من الأغنياء فاغتصبوا ولده -أي أخذوه منه عنوة- وطردوا هذا الرجل الفقير وشردوه كل مشرَّد، وربوا هذا الطفل في قصورهم فنشأ لا يعرف إلا لغتهم ولا يتغذى إلا بغذائهم ولا يتزيى إلا بزيهم، فلما اهتدى والده بعد لأْيٍ إلى مكانه في القصر، اقتحم إليه فقوبل اقتحامه بعاصفة من الدهشة والاستنكار حتى من ولده الذي لم يكن يعرفه، فما كان من الوالد -وهو صاحب حق- إلا أن ثبت مكانه، وتمادى في إصراره -ولصاحب الحق صولة- حتى بدأ قلب الولد ينبض بالرابطة الإلهية الأصيلة وألقى بنفسه بين ذراعي والده". (أحداث صنعت التاريخ: الإخوان المسلمون -رؤية من الداخل، محمود عبدالحليم، جـ1، ص78). نعود مرة أخرى إلى مشهد الواقعة التي جرت مؤخراً أمام مكتب رئيس جامعة الأزهر بعد هذا التطواف في جنبات العلاقة بين جماعة "الإخوان" وطلبة الأزهر، ونتساءل: ما الذي جعل الواقعة أكثر إثارة للإعلام ولمخاوف السلطة معاً؟ يقول أحد المحللين مجيباً، إنه كانت هناك إشارات اكتسبت معنى جديداً بما حدث في جامعة الأزهر. من ذلك مثلاً ما قاله المرشد العام لـ"الإخوان المسلمين" مهدي عاكف من أن تحت إمرته عشرة آلاف شاب جاهزون للذهاب إلى العراق وفلسطين لمقاتلة الأعداء!