انضم سكان المنطقة الفقيرة في ولاية "أوكساكا"، جنوب المكسيك، إلى إضراب سنوي خاضه المعلمون في عاصمة الولاية، ولكن سرعان ما تحول إلى حركة اجتماعية واسعة اتخذت شكل احتجاجات قوية شلَّت الحركة بالمدينة لعدة أشهر. ومن أجل القضاء على هذا الاستياء المتنامي في أوساط فقراء البلاد، الذين يشكلون نحو نصف عدد سكان المكسيك، يجد الرئيس الجديد "فيليب كالديرون" نفسه اليوم أمام تحدٍّ صعب يتمثل في إقامة توازن بين معالجة أسباب الفقر وجذوره وبين مواجهة أعراضه. ولهذا الغرض، تعهد الرئيس بإيلاء الاهتمام لبعض المشكلات الأساسية التي يعانيها الفقراء؛ فوضع نصب عينيه توفير الماء الصالح للشرب، والخدمات الصحية، والتعليم... وغيرها من الخدمات الأساسية. غير أن الرئيس كالديرون أوضح في الوقت نفسه أن أي شيء من ذلك لن يتحقق إذا لم يتم الحفاظ على الأمن والنظام، مُظْهِراً قبضة قوية فسرها البعض كإشارة إلى أن الاحتجاجات التي تمس بالنظام العام لن تعود مُحتملة بعد الآن. ويقول "لويس فيليب لوبيزكالفا" الذي من المرتقب أن يصبح رئيساً للقسم الاقتصادي لأميركا اللاتينية والكاريبي بالأمم المتحدة: "إنه الوضع المحيِّر الذي يواجه كالديرون اليوم"، مضيفاً: "إذا لم يقم بشيء لتبديد الغضب الاجتماعي، فقد يميل إلى استعمال العنف. والواقع أن أكثر ما يخشاه الجمهور هو أن يكسب شرعية عبر استعمال العنف في مواجهة الغضب الاجتماعي، بدلاً من الانكباب على أسباب ما يحدث الآن". يمكن القول إنه لا يوجد مكان حيث السعي إلى تحقيق هذا ويمثل التوازن المذكور تحدياً كبيراً في "أوكساكا" التي صوتت بقوة للمرشح اليساري "أندريس مانويل أوبرادور"، الذي هزم في الانتخابات الأخيرة بفارق ضئيل عن الرئيس الفائز؛ ذلك أنها واحدة من أفقر ولايات المكسيك، وساحة لأقوى الاحتجاجات التي شهدتها البلاد هذا العام، عندما أدى إضراب المعلمين السنوي في العاصمة مكسيكو إلى مقتل 12 شخصاً قبل أن يتم نشر الشرطة الفيدرالية في الولاية. والواقع أن المطالبةُ بخلع حاكم الولاية، الذي يتهمه خصومه بتزوير الانتخابات واستعمال أساليب القمع لإخماد الغضب الشعبي، ساهمت كثيراً في تغذية هذه الاحتجاجات التي مثلت بالنسبة للكثيرين فرصة للمطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية. من أولى الخطوات التي اتخذها "كالديرون" بعد توليه السلطة، الترخيص باعتقال زعيم حركة الاحتجاج في "أوكساكا"، وهو "فالفيو سوسا". غير أن القرار كان مثيراً، حيث يحذر الخبراء من أنه إذا كانت جهود "كالديرون" الرامية إلى فرض النظام في المكسيك، ومن ذلك العملية العسكرية الكبيرة التي استهدفت تجار المخدرات مؤخراً، قد أكسبته تأييد الجمهور وتعاطفه، فإنها قد تتسببت له أيضاً في استعداء أطراف أخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى عبارة تكررت كثيراً في "أوكساكا" مع غير قليل من السخط والاستياء، وهي "القبضة القوية". فإلى جانب اعتقال "سوسا"، قام "كالديرون" أيضاً بتعيين الحاكم السابق لولاية "خاليسكو"، وهو "فرانشيسكو راميريز أكونيا" الذي يُنظر إليه كمتشدد، وزيراً للداخلية. ويرى المحللون أن القرار بعث برسالة واضحة تفيد باعتزام "كالديرون" تبني مقاربة أكثر قوة وحزماً إزاء التعاطي مع الاحتجاجات العنيفة. وفي هذا الإطار، يقول "رونالدو غونزاليس"، منسق "مركز حقوق الإنسان" في "تلاكسياكو"، "إن تعيين أكونيا يشكل رسالة قوية تدل على الوجهة التي ينوي كالديرون أن يقصدها". كما يرى "غونزاليس" أن مخطط كالديرون الآخر الذي يقضي بتوحيد قوات الولايات في إطار شرطة فيدرالية موحدة، من شأنه أن يقوي جو القمع السائد: "إذ بدلاً من معالجة الأمور التي يحتاجها البلد، يرى كالديرون أنه من الأنسب إخراسنا ومنع الاحتجاجات". طوال حملته الانتخابية، قدم كالديرون نفسه على أنه "رئيس الوظائف"، لكنه سرعان ما غيّر رسالته في أعقاب الانتخابات التي طعنت فيها المعارضة، معلناً أنه يعتزم "اللحاق باليسار"، وهو ما دفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأنه ينوي تبني بعض برامج "لوبيز أوبرادور" الاجتماعية. والحال أنه ليست أمامه خيارات كثيرة؛ فقد تجمع أنصار "أوبرادور" على مدى شهر ونصف في الساحة الكبرى وسط العاصمة مكسيكو، بينما كانت محكمة الانتخابات تنظر في نتائجها المثيرة للجدل، وعندما رجحت كفة كالديرون، أعلن عشرات آلاف المكسيكيين أن "لوبيز أوبرادور" هو الرئيس الحقيقي للبلاد. ويقول "غابرييل غيرا كاستيانوس"، المحلل السياسي والمتحدث باسم الرئيسين السابقين "كارلوس ساليناس دي غورتاري" و"إيرنيستو زيديلو" في تسعينيات القرن الماضي، إن "كالديرون يعي جيداً أن الظروف التي سمحت لأوبرادور بأن ينافسه بقوة، وكادت تمنحه الفوز، ما زالت قائمة"؛ مضيفاً: "أعتقد أنه إذا كان يحرص على أن تكون له فرصة للنجاح في ولايته الرئاسية، فعليه أن ينكب على معالجة هذه المشكلات؛ إن البراغماتية تدعو إلى ذلك". وبالفعل، فبعد أيام معدودة على توليه السلطة كرئيس للبلاد، أعلن كالديرون عن خفض راتبه ورواتب المسؤولين الكبار في إدارته بنسبة 10%، وهو أمر كان "أوبرادور" قد تعهد بالقيام به في حال فوزه. أما الهدف من مخطط التقشف هذا، والذي يرتقب أن يوفر نحو 2.3 مليار دولار، فيتمثل في توفير مزيد من الخدمات الصحية والمنح الدراسية للطلبة. وإلى ذلك، كانت أول رحلة يقوم بها الرئيس المكسيكي خارج العاصمة مكسيكو، هي تلك التي زار خلالها واحدة من أفقر مدن ولاية "غيريرو"، وأعلن خلالها عن برنامج يروم الاستثمار في بلديات البلاد الأكثر فقراً من أجل تزويدها بالماء الصالح للشرب، وأنظمة جديدة للصرف الصحي، وتعزيز قدرة التمويل الفيدرالي المخصص للتعليم- والعمل على ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء. سارة ميلار ليانا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلة "كريستيان ساينس مونيتور" في المكسيك ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"