مرّ لبنان بـ"قطوعين" (حتى كتابة هذه السطور )، ولا أدري ما هو الآتي الأعظم إذا ما استمرت الأوضاع على حالها. القطوع الأول يوم الثلاثاء 23/1/2007 يوم الإضراب العام، والثاني يوم الخميس 25/1/2007. يوم الإضراب قيل عنه إنه يوم تحرك سلمي وحضاري وديمقراطي، فلم نرَ فيه سلماً أو حضارة أو ديمقراطية. بل كان ضرباً من ضروب الإرهاب. حيث تمت عملية تعبئة وتحريض وتخويف وترهيب للناس خصوصاً لمن لا يرغب في المشاركة في الإضراب والاعتصام. كان يوم استهداف للحرية بكل ما للكلمة من معنى. استهداف حرية الذين يريدون الذهاب إلى مدارسهم ومراكز أعمالهم وإنتاجهم. قالوا لهم: إذا حاولتم الخروج من منازلكم والوصول إلى هذه المراكز قد تعرفون كيف تذهبون ولكن احسبوا حساب العودة. قد لا تعودون! فهل في ذلك حرية؟ هل ثمة حرية في أن يحتكر طرف لنفسه كل ما يريد القيام به ويمنع الآخرين من ممارســة حريتهم؟ وثمة من يريد المشاركة، وله حريته، وثمة من لا يريد المشاركة فيمنع من ممارسة حريته؟ وأضيف إلى ذلك فرض الإضراب العام والشلل بالقوة. أي بقطع الطرقات واستفزاز الناس وإحراق الدواليب والسيارات وحمل العصي وكل وسائل التهديد والترهيب والوعيد، فهل بذلك يكون التحرك سلمياً وحضارياً؟ وفوق ذلك أيضاً تم الاعتداء على الناس واستخدام السلاح في وجه البعض منهم في بعض المناطق فهل بذلك يُصان السلم الأهلي؟ وأخطر ما شهده ذلك اليوم هو الاعتداء على حرية الإعلام! على المصورين والصحافيين وعلى قاعدة الفرز المذهبي. لقد كان ذلك اليوم من أبشع أيام لبنان، ومن يدَّعي لنفسه نجاحاً فيه فهو يحمل "شرف" هذه البشاعة وتلك الصورة. نعم. في الحرب الأهلية اللبنانية مارس المصورون دورهم، استشهد بعضهم على الطرقات بالقذائف العشوائية أو بالقنص العشوائي. لكن لم يتم توقيف أحد لأنه ينتمي إلى هذه الصحيفة أو تلك. أما في يوم الإضراب العام "السلمي والحضاري"، فقد حصل هذا الشيء. اعتدي على المصورين والمراسلين لأنهم تابعون لهذه المؤسسة أو تلك أو هذا المذهب أو ذاك. والأبشع أن البعض منهم لجأ إلى الادعاء بأنه ينتمي إلى مؤسسات أجنبية لضمان حمايته! هكذا بات العمل في مؤسسة أجنبية يحمي في لبنان! هكذا بات المصور والمراسل والصحافي الأجنبي يستطيع أن يغطي الأحداث ويصورها في لبنان بحرية تامة تقريباً، فيما يتعرض المراسل والمصور والصحافي اللبناني إلى القمع والترهيب والإهانة! ويُقال: هذا يوم حضاري! لا. لم يكن يوم الثلاثاء 23/1/2007 يوماً ناصعاً في تاريخ لبنان. ولم يكن يوم ديمقراطية وحضارة وحرية وسلم مهما حاول المشاركون فيه الادعاء بذلك. كان يوماً أسود في تاريخ البلد، أسيء فيه إلى كل القيم التي نريد أن تبقى أساس العلاقات السياسية بين الناس والقيادات في لبنان، وأساس الحياة الديمقراطية والأخلاقية في الممارسة السياسية. لقد كانت آثار ذلك اليوم سلبية جداً، وصورته بشعة للغاية. كان الخطر محدقاً بلبنان من كل الجوانب، ولم نكن نعرف من أين يمكن أن تنطلق شرارة الشغب والفوضى والفلتان لتكون "الفوضى الخلاقة" الدموية في البلاد. أما اليوم الثاني 25/1/2007، يوم لبنان في باريس حيث انعقد المؤتمر الثالث لدعم لبنان عربياً ودولياً والمسمى "باريس 3". فكانت الشاشات تنقل مباشرة وقائع ذلك المؤتمر المهم والمشهد الاستثنائي غير المسبوق الذي جمع عدداً كبيراً من قادة العالم وممثليهم لدعم لبنان، وكان التنافس والتسابق على الدعم ظاهرين. وأهم ما في تلك المظاهرة أن أحداً لم يضع شروطاً مسبقة على البلد. فجأة وبعد منتصف النهار بقليل انتقلت الصورة من باريس إلى بيروت. بات المشهد على الشاشات الحرائق مجدداً في بعض شوارع وأحياء بيروت. وما رافق ذلك لاحقاً على مدى ساعات من تشنجات وتوترات وتهديدات وإطلاق نار. بدا لبنان يشتعل، والاحتقان كبيراً، والحالة المذهبية تستشري وتنتشر بسرعة من زاروب إلى زاروب ومن حي إلى حي ومن بناية إلى أخرى، ولا أبالغ إذا قلت من بيت إلى آخر على مستوى المشاعر. كل الأحقاد ظاهرة. وكل التعبئة ظاهرة. وكل شيء مستهدف. فالإعلام نال نصيبه هذه المرة. أو بالأحرى رجال الإعلام. المصورون والمراسلون تم فرزهم واستهدافهم مجدداً على أساس انتمائهم إلى هذه المؤسسة أو تلك. والأخطر هو الجامعة. فالأحداث انطلقت من منطقة الجامعة العربية وفي محيطها. واضطررنا إلى إعلان منع التجول وتعليق التدريس لأيام منعاً لاحتقان وصدام. لم تعد المدارس مراكز تربوية جامعة مؤسسة لمستقبل من العلاقات والتفاعل بين الطلاب. لم تعد المكان المؤسس لذاكرة الأطفال والتلامذة يعيشون مع بعض، يكبرون يتفاعلون يتشاركون الأحلام والأفكار! ولم تعد الجامعات ملتقيات حوار وتفاعل ومشاركة وعطاء وتأسيس لمستقبل جامع. ولم يعد الإعلام وسيلة لتعميم ثقافة وفكر وعلم وخبر وصورة وموقف وتعليق يقابله موقف آخر وتعليق آخر يخاطب العقول ويقدم البدائل والأفكار ويتوجه إلى المستقبل. أصبح أداة وسلاحاً يستخدمان بعشوائية وتتحكم بهما الغرائز والانفعالات. ولم تعد الإدارات موقعاً لخدمة الناس بل تحولت إلى مراكز يتقاتل فيها الناس بنظراتهم، بانتقامهم من مواطنيهم وتأخير معاملاتهم إن بسبب انتمائهم الطائفي أو المذهبي أو المناطقي أو لابتزازهم. ولم تعد ولم تعد ولم تعد... إلى حد أنك تشعر وكأن كل شيء يتهاوى والأخطر أنه لم يعد ثمة تواصل بين القادة بل يمكن القول لم يعد ثمة قادة عموماً! لم يعد ثمة رجال... بعضهم قال نحن مع "باريس 3"، ومع أية مساعدات غير مشروطة تُقدم إلى لبنان. وبعضهم الآخر قال نحن ساهمنا في إعداد الخطط المقدمة إلى "باريس 3" ونريد إنجاح المؤتمر. وهؤلاء وأولئك انقلبوا بعد أيام وساعات على هذا القول فهاجموا "باريس 3"، وحاولوا منع رئيس الحكومة والوزراء من الذهاب إليه، ثم قالوا إنهم علقوا تحركهم للسماح لهم "بمغادرة لبنان بكرامة"، وقال آخرون وبعد تأييدهم للمؤتمر: إن المال الذي سيأتي هو مال المخابرات المركزية الأميركية. تلك هي حال المؤسسات والبلاد. ولم يعد ثمة معيار فكيف نحاسِب وكيف نحاسَب؟ المحكمة الدولية ستقوم. وإذا كان ثمة من يبحث أو يسعى إلى عدم قيامها من خلال صفقة ما يقدم فيها ثمناً، فإن الثمن سيكون على حساب لبنان وعلى حساب من يحاول عرقلة قيامها فيه أولاً. ولن يتمكن فريق من فرض شروطه على فريق آخر، فلبنان محكوم بالتوازن في معادلاته الداخلية وانعكاسات المعادلات الخارجية عليه وأي خلل يؤذي كل البلد وتنتهي المسألة بـ"لا غالب ولا مغلوب" وباستطاعة أي فريق في الداخل أن ينتصر على فريق آخر في الخارج وحصل ذلك في وجه إسرائيل. لكن لا يستطيع أي فريق في الداخل مهما كبر حجمه وعدده وازدادت قوته ومخازن أسلحته وموجودات خزناته، أن ينتصر على فريق آخر قليل العدد جداً وضعيف جداً في الداخل. تلك هي الحقيقة اللبنانية. فهل يقتنع مرة جديدة من أوقع نفسه ولبنان في أربع قطوعات حتى الآن منذ بداية حركة الاعتصامات في قلب بيروت وحتـى الآن (حتى كتابة هذه الكلمات)؟ وأين الرجال في مواجهة هذه الحقيقة؟ فلنعد إلى طاولة الحوار . لا خيار لنا غير ذلك.