تحرص دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على المحافظة على أمنها واستقرارها وأمن منطقة الخليج العربي والعالم العربي من حولها، وتبذل في ذلك الغالي والنفيس. كما تحاول تخفيف حدة الصراعات في المنطقة، وإرساء قواعد العيش الآمن المشترك لجميع الشعوب المطلّة على هذه البحيرة الخليجية التي تهم العالم أجمع، باحتوائها على أكثر من ستين في المئة من إمدادات الطاقة العالمية. ولقد عانت دول المنطقة من حروب مريرة قتل فيها مئات الآلاف، وأهدرت فيها مئات المليارات من الدولارات بسبب الصراعات الثنائية، ومحاولات بسط النفوذ. لذلك لم يكن من المستغرب أن تولي بعض دول الخليج العربي اهتماماً بالغاً بمبادرة اسطنبول التي طرحها حلف شمال الأطلسي "الناتو" في يونيو من عام 2004. وقد تضمنت تلك المبادرة عدة أمور منها التعاون في مجال تبادل المعلومات، ومكافحة الإرهاب، وتبادل التقنيات في مسألة حماية الحدود وإدارة الكوارث، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والتعاون في مجالات التخطيط والتدريب والإدارة المالية، وغيرها من النقاط التي احتوتها تلك المبادرة. وقد عقدت دول المنطقة مع الحلف أربعة مؤتمرات مشتركة خلال العامين الماضيين بغرض استجلاء بعض الغموض الذي يكتنف تلك المبادرة. واتضح من خلال هذه المؤتمرات، أن هذه المبادرة لا تنطوي على دعوى مباشرة، أو حتى الإيحاء بانتساب دول الخليج العربية إلى عضوية الحلف. وأن هذا التعاون الثنائي يعتبر محدوداً بعض الشيء في النقاط التي تم التنويه عنها. ويتداول المفكرون والأساتذة الخليجيون المهتمون بالشأن الأمني في موضوع الانتساب إلى هذه المبادرة. وهناك ثلاث مدارس رئيسية هنا، تذهب الأولى إلى اغتنام فرصة الانتماء إلى هذا التجمع العالمي لأنه يعدُّ شريحه أمن جديدة تضاف إلى شرائح واتفاقيات الأمن الثنائية بين دول المنطقة والدول الكبرى، وتذهب إلى القول إن مثل هذا التعاون يعطي عمقاً، أكبر ويربط الدول المستهلكة للنفط في أوروبا بمستقبل منطقة الخليج الحيوية لهذه الدول، خاصة في ضوء ما يراه البعض من تراجع في الدور الأمني للولايات المتحدة في المنطقة. واحتمال انسحاب قواتها من العراق، وانكفائها على نفسها في فترة انعزالية مستقبلية، بالرغم من إعلان وزير الدفاع الأميركي الجديد عن عدم نية حكومته الانسحاب من هذه المنطقة المهمة من العالم. وتذهب المدرسة الثانية في علاقات الخليج بمبادرة اسطنبول إلى أنه ينبغي تطبيق مبدأ ميزان المكاسب والخسائر على مثل هذا القرار. وبالرغم من أن الانضمام إلى المبادرة لا يمثل الانضمام إلى عضوية الحلف الرسمية، إلا أن له بعداً رمزياً قد يفهمه الآخرون بأنه نوع من الاستقطاب الإقليمي، في فترة حرجة تشهد توتراً وتصعيداً إقليميين قد يقودان إلى حرب ثالثة جديدة في المنطقة. ويذهب المشككون إلى أن المبادرة لا زالت غامضة، وربما كانت خلفها أجندة سياسية أخرى غير معلنة. وفي هذا الشأن فإن مكاسب الانضمام إلى المبادرة هي مكاسب محدودة يمكن تلبيتها من خلال الاتفاقيات الثنائية القائمة مع الدول الكبرى، دون ضرورة للتفاوض والتعامل مع ست وعشرين دولة من دول الحلف، والدخول في نقاشات مطولة مع دول صغيرة في شرق أوروبا، غير قادرة على حماية أمنها الذاتي، فكيف بها تحاول حماية أمن دول صغيرة فيما وراء البحار. ويطرح آخرون أن الحلف لا يتفاوض مع دول مجلس التعاون كوحدة واحدة، ولكنه يتفاوض مع كل دولة منها على حدة، كما أن الأجندة المطروحة هي أجندة الحلف، ولا تستجيب لمتطلبات أمن الخليج بشكل مباشر، أو المخاوف الأمنية لدول الخليج العربية. فنحن في هذه الحالة أمام أجندتين مختلفتين، إحداهما موضوعة على طاولة الحوار، وهي أجندة أوروبية، وأخرى أجندة خليجية تنتظر الطرح. وتذهب المدرسة الثالثة إلى أن التحديات الأمنية المستجدة على الساحة السياسية تتطلب من دول مجلس التعاون قدراً كبيراً من المرونة والاستجابة لهذه التحديات. وأن هذه الاستجابة تحتم إبقاء الباب مفتوحاً على الحلف، والدخول في تعاون غير رسمي ومحدود وغير ملزم في قطاعات ومجالات معيّنة، واغتنام فرص الحوار عبر الهيئات والمنظمات غير الحكومية، للتأثير وتبادل الآراء والحوار في المجالات الأمنية المهمة لدول المجلس. وربما كانت المدرسة الثالثة هي المدرسة الأكثر والأقرب إلى الواقعية، لأنها لا توصد الباب أمام أي تحرك دبلوماسي لصاحب القرار، وتجعل جميع الخيارات مفتوحة أمامه. وقد تبرز بعض المشكلات البيئية الصعبة، مثل تسرب إشعاعي في مياه الخليج أو أجوائه يتطلب تدخلاً سريعاً وقدرات ليست متوافرة لدول الخليج العربية. وهنا يمكن لدول الحلف التي تتمتع بخبرات طويلة في هذا المجال أن تساهم جماعياً، أو ثنائياً في عمل وقائي بيئي، يحصر الخطر الداهم ويحاول احتواء آثاره. ومن جانبه فإن حلف "الناتو" يمكن أن يلعب دوراً أكبر في قضايا المنطقة بحيث لا يحصر اهتمامه في النواحي الدفاعية والعملياتية، وأن يأخذ بعداً سياسياً أكثر في وضع استراتيجيته في المنطقة العربية، وخاصة أن المنطقة العربية محاذية ومهمة للقارة الأوروبية، الحاضن الأساسي للحلف. ومن ثم فإنه لا يمكن للحلف أن يتجاهل القضايا السياسية الجوهرية، مثل طرح حلّ سياسي وجوهري للقضية الفلسطينية التي مر على نكبتها أكثر من نصف قرن، ظل اهتمام الولايات المتحدة والدول الأوروبية طوالها منصباً على إيجاد أنصاف حلول لها، أو على الاهتمام فقط بالأعراض الخارجية، دونما مجابهة للأسباب الجوهرية لها، والتي هي أساس معظم الإشكالات والحروب والنزاعات في المنطقة، ودون فرض حلول سياسية متطابقة مع الشرعية الدولية، ومنفذة لإرادتها. وهكذا فإن الحوار مع مفكري الحلف وواضعي خططه سيكون مهماً للتأثير في سياساته. ويبقى موضوع الانتماء إلى مبادرة اسطنبول محل أخذ ورد، بين المهتمين والمختصين في هذا المجال، بالرغم من توقيع أربع دول خليجية، واقتناع بعضها بأهمية مثل هذا الانضمام أيضاً.