التراجيديا الفلسطينية: آفاق السلام وأشباح الماضي ----------- منذ حرب 1948 التي قامت على إثرها إسرائيل وتم تمزيق المجتمع الفلسطيني، لم يتوقف الجدل حول المأساة الفلسطينية، بل كانت تتم إعادة صياغة ذلك الجدل وتحويره بشكل مستمر، كانعكاس للتطورات السياسية ذات الصلة بتلك الأزمة الممتدة طوال الستين عاماً الماضية. وفي الكتاب الذي نعرضه في هذه المساحة، وعنوانه: "التطهير العرقي لفلسطين" لمؤلفه "إيان بابي"، نطلع على تفنيد للآراء القائلة بأن القضية الفلسطينية قد تآكلت بشكل كامل تقريباً من الذاكرة العامة، ليؤكد المؤلف على أن تلك القضية لم تغب ولم تتآكل، وكل ما هنالك هو أن بعض منافذ التعبير عنها قد أغلقت، لأسباب سياسية في الأساس، وأن ذلك قد تم بدأب شديد من قبل بعض الجهات المتنفذة المعادية للشعب الفلسطيني، والتي قامت بعملها على نحو يشي بما تحمله تجاه ذلك الشعب وقضيته من ضغينة. يبدأ المؤلف كتابه بالحديث عن حرب 1948 فيقول إن تلك الحرب تمت على مرحلتين؛ أولاهما هي مرحلة الحرب بين القوات العربية غير النظامية والقوات اليهودية داخل فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني، والثانية هي تلك التي اتخذت فيها تلك الحرب بعداً دولياً بعد مشاركة جيوش خمس دول عربية فيها. وكان النصر حليف الإسرائيليين في الحالتين. وأثناء تلك الحرب وبعدها نزح معظم السكان الفلسطينيين من بيوتهم ليبدأوا رحلة الشتات. ويرى المؤلف أن الأفكار حول تلك الحرب والتي يتبناها كلا الطرفين، تختلط فيها الحقائق التاريخية، بالذاكرة الشعبية والرسمية، كما يختلط فيها الجدل السياسي بالهموم الوجودية. ورغم ذلك التداخل، فإن هناك -بحسب المؤلف- صورة واحدة لدى كل طرف تختلف عن الصورة الموجودة لدى الطرف الآخر. فبالنسبة للفلسطينيين، فإن ما حدث في حرب 1948 وما تلاها، كان" نكبة" بكل المقاييس.. أما لدى الجانب الإسرائيلي فتلك الحرب كانت "ملحمة من ملاحم النصر"، وإن كان ذلك النصر قد تحقق بثمن باهظ بشرياً، حيث لقي 6000 يهودي مصرعهم خلال الصراع مع العرب، كما تحقق بثمن باهظ معنوياً أيضاً. ويرى بعض المؤرخين الإسرائيليين أن نزوح الفلسطينيين من أراضيهم عام 1948 على أنه شيء تعود تبعاته على الحكومات العربية في المقام الأول وليس الإسرائيليين، وأن السبب فيه كان عناد الزعماء العرب الذين أصدروا أوامرهم للمدنيين الفلسطينيين بترك ديارهم. كانت هذه هي النظرة السائدة لدى المؤرخين الإسرائيليين الأكبر سناً، ولكن المؤرخين الأصغر سناً منهم ينظرون إلى الأمر نظرة مختلفة، ويضعون هذه الفكرة موضع التحقيق والمساءلة، ويتوصلون من خلال ذلك إلى حقائق مؤداها أن خروج الفلسطينيين الجماعي من ديارهم قد تم نتيجة لهجمات يهودية حقيقية أو متوقعة ضدهم بغرض إجبارهم على إخلاء قراهم. ويرى هؤلاء المؤرخون أن ذلك كان مقروناً في عدد غير قليل من الحالات بفظائع وعمليات وحشية مثل إطلاق النار على السجناء والمدنيين، وممارسة أعمال السلب والنهب على نطاق واسع، واغتصاب النساء الفلسطينيات في بعض الحالات، علاوة على أن اليهود قد اتخذوا خلال الرحيل الجماعي للفلسطينيين من قراهم وبلداتهم قراراً بعدم السماح لمن يهاجر بالعودة مرة ثانية، مما خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين التي لا تزال قائمة حتى اليوم. وهذا التفنيد الجزئي من جانب "المؤرخين الجدد" لفكرة ورؤية الجانب الإسرائيلي لما حدث عام 1948، يقوض الأسس التي تقوم عليها الدولة اليهودية في حد ذاتها، كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين الصهاينة. وكتاب "بابي" يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فهو لا يوافق على أن أزمة اللاجئين كانت من ضمن التداعيات غير المقصودة لتلك الحرب، بل يرى أن الحرب ذاتها كانت نتاجاً فرعياً لحملة إسرائيلية منظمة للتطهير العرقي، وأنه يمكن رؤية الفظائع التي حدثت قبل هذه الحرب وأثناءها وبعدها على ضوء ذلك، لأن تلك الفظائع كانت جزءاً لا يتجزأ من عملية التطهير العرقي برمتها. ويرى المؤلف أن عمليات السلام المجهضة بين الإسرائيليين والفلسطينيين والتي تمت منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى الآن، كان الهدف منها في نظر الإسرائيليين هو معالجة الآثار التي نتجت عن حرب عام 1967- لا حرب 1948. وكانت النتيجة المتوقعة من قبل معظم المشاركين الإسرائيليين في تلك المحادثات هو أن تنتهي تلك المحادثات بخلق دولة فلسطينية على معظم الأراضي التي تم احتلالها عام 1967. أما جعل لاجئي 1948 وأحفادهم جزءاً لا يتجزأ من تلك المفاوضات فكان يهدد في رأيهم وجود دولة إسرائيل ذاته، كما ينسف أي أمل في التوصل إلى حل بين الطرفين. أما معظم الفلسطينيين الذين شاركوا في تلك المحادثات فقد كانوا ينظرون إلى الأمر نظرة معاكسة حيث كانوا يرون أن إنهاء الصراع يجب أن يكون مرتبطاً بالاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى أراضيه وتعويضه عما لحق به من خسائر وأضرار عام 1948. ويعلن المؤلف أنه يتبنى وجهة النظر هذه بدون مواربة ويؤيدها بقوة وبصوت عالٍ، وأنه لن يتردد في التعبير عنها في كافة المحافل، رغم الانتقادات المتوقع أن يواجهها من جانب بعض الجهات في إسرائيل وهي انتقادات تنبع من أجندات سياسية مختلفة بعضها منطقي وبعضها شرير، كما يقول. ورغم أن الرأي الذي يعلن المؤلف تأييده له، لا يمثل الكلمة الأخيرة في الجدل المستمر حول التراجيديا الفلسطينية -من وجهة النظر الإسرائيلية على الأقل- فإنه مما لاشك فيه أنه يضيف الكثير إليه خصوصاً وأنه ليس هناك أمل في التوصل إلى سلام دائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين طالما ظلت أشباح ما حدث عام 1948 باقية. سعيد كامل الكتاب: التطهير العرقي لفلسطين المؤلف: إيان بابي الناشر: ون وورلد بابليكيشن تاريخ النشر: 2006