انخراط أميركا في الشرق الأوسط ------------ كثيراً ما نتساءل، نحن العرب، عن الأسس الأيديولوجية التي قامت عليها السياسة الخارجية الأميركية، فنسبغ مسحة دينية عليها تارة، وتارة أخرى نحصرها ضمن نظرة براجماتية صرفة تعلي من شأن المصالح القومية الأميركية وتجعلها المحرك الوحيد لسلوك الدولة الأعظم. بيد أن الكتاب الذي نعرضه اليوم لمؤلفه المؤرخ مايكل أورين: "القوة والإيمان والخيال: انخراط أميركا في الشرق الأوسط منذ 1776 إلى اليوم"، يسعى إلى تتبع الجذور التاريخية للسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط والمحددات الأساسية التي رسمت ملامحها طيلة الـ250 سنة الأخيرة. وبين النظرة المثالية التي تميز السياسة الأميركية عن نظيرتها الأوروبية، والرغبة في حماية المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة، فضلاً عن المعتقدات الدينية التي جعلت أميركا تقف وراء قيام دولة إسرائيل، والتصورات المغلوطة والمتحيزة التي رسمها الرحالة والمبشرون... عن المنطقة، يخوض بنا المؤلف رحلة تاريخية تفسر الحاضر على ضوء الماضي، وتتيح لنا فهم بعض الثوابت الأساسية في السياسة الخارجية الأميركية. وهكذا يفند الرأي القائل بأن السياسة الحالية للرئيس جورج بوش تفترق عن السياسة الأميركية التقليدية القائمة على الواقعية وحماية المصالح القومية، بعيداً عن الرؤى التبشيرية التي تسعى من خلالها الإدارة الأميركية الحالية إلى تغيير الشرق الأوسط ونشر الديمقراطية في ربوعه. فحسب المؤرخ "مايكل أورين" ينطوي ذلك الرأي على سوء فهم واضح لتاريخ السياسة الخارجية الأميركية على مر العصور ولمرتكزاتها الثابتة. وفي هذا الإطار يتحول الكتاب إلى دعوة صريحة من المؤلف إلى إعادة قراءة التاريخ الأميركي في الشرق الأوسط، والنظر إلى الحقائق بعيداً عن الآراء المسبقة والجاهزة. فالكتاب يوضح ثلاثة ثوابت لازمت السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط: الأول يقول إن الأميركيين سعوا دائماً إلى تغيير الشرق الأوسط لإدماجه في المنظومة الليبرالية والمسيحية الغربية. والثاني يقوم على تجذر الدعم الأميركي لإسرائيل، واليهود عامة، في صلب العقيدة البروتستانتية. أما الثابت الثالث في هذه السياسة، فهو النظرة السلبية تجاه الإسلام باعتباره "ديناً بربرياً يشجع على العنف"! لقد بدأ التدخل الأميركي في منطقة الشرق الأوسط منذ الحملات العسكرية التي سيَّرها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة عام 1799 لحماية السفن الأميركية في البحر الأبيض المتوسط من هجمات "القراصنة" في شمال أفريقيا. لكن رغم المخاطر التي واجهتها تلك السفن، فقد تردد الساسة الأميركيون كثيراً قبل إرسال أسطول لمحاصرة ميناء طرابلس. ولم تخلُ تلك الفترة، كما يذكر المؤلف، من نقاش أميركي داخلي حول جدوى محاربة "القراصنة" في الساحل الشمالي لأفريقيا، وهو النقاش الذي لا يختلف كثيراً عن النقاشات التي دارت خلال الحروب الأميركية اللاحقة، بما فيها الحرب الأخيرة في العراق. وهكذا يتبين أنه منذ البداية عرفت السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط تأرجحاً بين التدخل العسكري واستخدام القوة لإخضاع المناوئين، كما هو الحال مع "قراصنة" شمال أفريقيا، وبين التحفظ خشية التكلفة الاقتصادية والبشرية التي يتمخض عنها التدخل. هذا التأرجح في المواقف تغذيه الصورة التي بدأت تتشكل في العقل الأميركي عن الشرق الأوسط والمستندة إلى تجارب البعثات التبشيرية في المنطقة من جهة، والرحالة الذين قدموا إلى الشرق الأوسط من جهة أخرى. فرغم تعاطف البعض مع العرب، فإن الرؤية التي طغت على زوار المنطقة هي تلك المبنية على "المثالية المسيحية"، كما يسميها المؤلف. فقد سعى المبشرون البروتستانت إلى تحقيق النبوءة التوراتية برجوع اليهود إلى فلسطين حتى قبل تشكل الفكر السياسي الصهيوني على يد اليهود. هذا التعاطف الذي تبديه الفرق المسيحية، وبخاصة البروتستانتية مع اليهود، شجعهم على الهجرة إلى الأراضي المقدسة والاستيطان في فلسطين. وهكذا يمر الكاتب عبر ما يعتبره الأسس التي صاغت السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، والموزعة بين التدخل العسكري والتعاطف مع اليهود والنظرة المثالية الخرافية لمنطقة ترزح تحت القيود والفقر مع ما يفرضه ذلك من ضرورة مساعدتها على التخلص من الاستبداد واستنشاق هواء "الحرية الأميركية". ولعل هذا ما يفسر الكلمات الثلاث التي يتألف منها عنوان الكتاب باعتبار أن "القوة والإيمان والخيال" هي فعلاً مفاتيح السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، منذ جورج واشنطن وحتى ووردرو ويلسون. وسيساهم لاحقاً توسع النفوذ الأميركي في العالم، واكتشاف النفط في الشرق الأوسط، فضلاً عن الحرب الباردة واندلاع الصراع العربي- الإسرائيلي... في تكريس التدخل الأميركي في المنطقة. غير أن ما يميز السياسة الخارجية الأميركية عموماً، وفي ذلك الشرق الأوسط خصوصاً، حسب مايكل أورين، هو النزعة المثالية التي تفرقها عن نظيرتها الأوروبية. فرغم الطابع الواقعي للتدخل الأميركي وبروز المصالح القومية كدوافع بارزة للسياسة الخارجية، فإن دخولها الحرب العالمية الأولى، ووضع خطة مارشال لإنعاش الاقتصاد الأوروبي المحطم، فضلاً عن تدخلها في البوسنة وكوسوفو... يؤكد النزعة المثالية التي لا يفهمها الأوروبيون. وفي حالة الشرق الأوسط، تتكشف تلك النزعة من خلال المشاعر الدينية المسيحية التي يكنها الأميركيون تجاه منطقة كانت مسرحاً لأحداث ووقائع يشير إليها الإنجيل. وهو ما يفسر التعاطف الأميركي مع اليهود الذين يزعم أن ذكرهم يرد في كتاب "العهد القديم" باعتبارهم سكان فلسطين. وليس من قبيل الصدفة أن يورد المؤلف كلام أحد الأستاذة المرموقين بجامعة نيويورك خلال القرن التاسع عشر عبر كتاب ألفه حينئذ ويدعو فيه إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، هذا المؤلف الذي لم يكن سوى "جورج بوش"، أحد الأجداد البعيدين للرئيس الحالي! زهير الكساب الكتاب: القوة والإيمان والخيال: انخراط أميركا في الشرق الأوسط المؤلف: مايكل أورين الناشر: نورتون تاريخ النشر: 2007