خلال الأشهر الستة الأخيرة، كشفت وسائل الإعلام الأميركية وجلسات الاستماع داخل الكونجرس، فضلاً عن الدعاوى القضائية التي رفعها المواطنون، ثم التقرير الصادر عن المفتش العام لوزارة الداخلية الأميركية، سلسلة من الاختلالات التي تنطوي عليها عملية إدارة موارد النفط والغاز الطبيعي التابعة للحكومة الفيدرالية الأميركية، لاسيما تلك الموجودة في أراضي ومياه ضِمنَ الملْكية العامة. هذه الاختلالات في إدارة الموارد المتنوعة سببت خسارة الحكومة لمليارات الدولارات من العائدات نتيجة سوء التسيير وانعدام الكفاءة، وفي بعض الأحيان الافتقار إلى الشفافية في استغلال موارد الدولة. ولأن الخلل بلغ درجة كبيرة، فقد توقع بعض المراقبين أن يتطرق الرئيس جورج بوش المعروف بصداقته مع أرباب صناعة الطاقة في الولايات المتحدة إلى مشكلة تسيير موارد الدولة من النفط والغاز في خطاب الاتحاد لهذا العام. بيد أن ذلك جاء متأخراً بالنظر إلى الفترة الطويلة التي قضاها بوش في البيت الأبيض دون لفت الانتباه إليها. واللافت أن الطريقة السيئة لإدارة الحكومة الأميركية لمواردها النفطية، وسجلها المتردي في هذا المجال، يشبه في كثير من أوجهه المشاكل التي تعاني منها الدول الفاشلة. فالعديد من الممارسات المرتبطة بإدارة النفط والغاز التي ننتقدها في مناطق أخرى من العالم، مثل فشل صناعة النفط العراقية في الرفع من مستوى الإنتاج، نجدها منتشرة على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة. وعلى غرار الحكومة العراقية، تفتقر الولايات المتحدة لنظام فعال يحدد على وجه الدقة كمية النفط والغاز التي تنتجها الشركات المتعاقدة مع الدولة لاستغلال الأراضي التابعة لها. وقد أظهرت العديد القضايا المرفوعة أمام المحاكم الأميركية، علاوة على التحقيقات الفيدرالية، قصوراً شديداً في تسديد الشركات لمستحقات استغلال الأراضي والمياه التابعة للحكومة الفيدرالية. والغريب أنه رغم ثبوت تلاعب الشركات الخاصة، فإن الحكومة الأميركية مازالت تثق فيها وتعتمد عليها لكشف معلوماتها دون اللجوء إلى طرف مستقل يقيِّم الأرباح ويحدد حصة الحكومة الأميركية. وفي هذا الإطار ذكر "إيرل ديفاني"، المفتش العام في وزارة الداخلية الأميركية، أن الحكومة الفيدرالية تفتقر لسجلات مضبوطة عن تدقق الأموال التي تحصلها من الشركات الخاصة التي تستغل أملاك الدولة، فضلاً عن عدم قيامها بعمليات التدقيق اللازمة لمعرفة مستحقاتها لدى الشركات. وقد كشف المفتش العام أيضاً أن الحكومة تظل عاجزة عن تحديد حصتها من إجمالي إنتاج الشركات من النفط أو الغاز الطبيعي في حال كانت طبيعة التعاقد مع الشركات تعتمد على حصول الدولة على حصة من الإنتاج بدل تحصيل مستحقات مالية. ورغم أن العائدات الحكومية ترتكز في جزء كبير منها على المداخيل التي تضخها الشركات المتعاقدة في خزينة الدولة، إلا أن أساليب المتابعة لا تضمن حصول الدولة على كامل حقوقها لتظل في الأخير رهناً لشطط الشركات وتلاعبها. ولعل ما يزيد من سوء إدارة الحكومة الفيدرالية لمواردها، هو الأجواء السرية التي تحيط بتعاملات الشركات مع الدولة، إذ تمتنع عن إعلان نسبة إنتاجها، أو الأموال التي تدفعها للحكومة نظير استغلالها للأراضي والمياه التي تمثل ملكية عامة. وتبرر الشركات عدم إعلانها للأموال التي تدفعها للدولة أمام الرأي العام الأميركي، باحتمال تهديد ذلك لاستراتيجية التسعير لديها ما قد يكبدها خسائر كبيرة. وغني عن القول إن كشف الأرقام للرأي العام هو ضرورة من ضرورات الشفافية التي يتعين على الشركات أن تلتزم بها، لاسيما وأن الأمر يتعلق بملكية عامة يفترض أن يطلع عليها المواطن الأميركي. كما أن السرية التي تتوارى خلفها الشركات الأميركية المتعاملة مع الحكومة تنافي معايير الشفافية والمساءلة لدى شركات الطاقة العالمية، وهي المعايير نفسها التي تدعو الولايات المتحدة دول العالم للالتزام بها. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى الممارسات الشفافة للشركات العالمية مثل "نيومونت" وشركات أخرى بدأت تنشر على مواقعها الإلكترونية معلومات حول الضرائب والمستحقات التي تدفعها للحكومات. كما أن شركة "ستاتويل" ملزمة وفقاً للقانون النرويجي بكشف أموال الضرائب التي تسددها للحكومات في الدول التي تعمل بها. يشار أيضاً إلى أن شركات مثل "إكسون موبيل" و"شل" و"توتال"، فضلاً عن شركات عالمية أخرى عديدة تعمل في مجال الطاقة والتنقيب عن المعادن، انخرطت في "مبادرة عالمية للشفافية" تقوم من خلالها بالإفصاح عن معاملاتها المالية، خصوصاً مع الدول النامية التي تستفيد من خدماتها. وفي بعض الدول، مثل نيجيريا، ترغم الحكومة الشركات العالمية على كشف حجم إنتاجها وكافة المعلومات المرتبطة باستغلال الأراضي قبل البدء في الاستفادة من موارد النفط أو الغاز الطبيعي، وهو ما يتعين على حكومة الولايات المتحدة المبادرة إلى تبنيه، فهي أوْلى بتطبيق معايير الشافية من غيرها. وإذا كانت الولايات المتحدة تحث دول العالم على ضرورة التقيد بمعايير الشفافية والمساءلة، فإن عليها هي أولاً أن تطبقها في الداخل من خلال إرغام الشركات العاملة في مجال الطاقة التي تستغل أراضي ومياهاً تابعة للحكومة الفيدرالية على كشف جميع المعلومات المرتبطة بحجم الإنتاج، فضلاً عن مستحقاتها للدولة. والهدف هو الحد من التلاعب وضمان حصول الحكومة على مستحقات استغلال أراضيها كاملة غير منقوصة. كارين ليساكير ــــــــــــــــــــــــــــ مدير "معهد مراقبة المداخيل" الأميركي ــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"