لقد دعا تقرير "مجموعة دراسة العراق"، المقدم إلى الكونجرس -والذي أعلنتُ عن تأييدي له إجمالاً- إلى انسحاب محسوب للقوات الأميركية من العراق. لكن بدلاً من ذلك، قرر الرئيس بوش إرسال نحو 20 ألف جندي إضافي إلى ذلك البلد العربي، الذي لحق به دمار رهيب. كما دعا تقرير كل من "بيكر- وهاملتون" المقدم عن المجموعة المذكورة، إلى ضرورة إجراء واشنطن لمحادثات دبلوماسية مع طهران، مشيراً في ذلك إلى أن الواقع العملي -وليس ذلك الواقع الوهمي الذي لا وجود له إلا في عقول "المحافظين الجدد"، الذين يصغون لكل ما يتفوه به نائب الرئيس ديك تشيني- ربما يقتضي أحياناً ضرورة التخاطب مع العدو والصديق على حد سواء، من أجل حل عقبات ومصاعب واقعية. وبدلاً من ذلك، فها هو الرئيس بوش وقد أرسل للتو تعزيزات عسكرية بحرية إلى مياه المنطقة. ولاشك أن في هذه المواجهة والتصعيد العسكري مع طهران، خطأ آخر من جملة الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها البيت الأبيض. وفي اعتقادي الشخصي أن هذا الاتجاه لن يجد ترحيباً يذكر من قبل الدول الخليجية والإقليمية المجاورة لإيران. ومن ذلك ما يثيره الدكتور علي أنصاري، الخبير والباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية بجامعة "سينت. أندروز" الأسكتلندية، من مخاوف وتحذيرات من أن تؤدي مواجهة كهذه، إلى عواقب وخيمة وكارثية تطال المنطقة بأسرها. وعلى حد قوله لي، فإنه: "ليس مستبعداً أن تتحول هذه الحرب الباردة الدائرة الآن بين واشنطن وطهران، إلى حرب ساخنة. فما هذه سوى حرب مصادفة ينتظر لأوارها أن يشتعل". فلأميركا الآن، أسطول بحري ضخم في هذه الرقعة الإقليمية، لعل آخره إرسال حاملة الطائرات العملاقة "دويت إيزنهاور" إلى المياه المتاخمة لإيران في شهر ديسمبر الماضي. وبوصولها تنضم تلك الحاملة إلى مجموعة "جون سي. ستينز" المرابطة هناك. والملاحظ أن الولايات المتحدة، لم تعمد إلى نشر مجموعتين من حاملات الطائرات المقاتلة في المنطقة، منذ غزوها للعراق في صيف عام 2003. وإلى جانب هاتين المجموعتين، توجد هناك أصلاً فرقاطة بريطانية، إلى جانب مجموعة قناصة الألغام البحرية الملكية. وليس ذلك فحسب، بل أرسلت واشنطن كذلك كتيبة دفاعية إضافية، مزودة ببطاريات صواريخ "باتريوت"، بزعم حماية مصالحها في منطقة الخليج العربي. وكما دأب البيت الأبيض عادة في مثل هذه الحالات، نفى هذه المرة أيضاً، أن تكون وراء كل هذه التعزيزات العسكرية الجارية، أية خطط أو نوايا عسكرية تستهدف طهران. غير أن هناك حزمة من المعضلات تكمن وراء هذه التحركات الأميركية. فمن وجهة النظر الإيرانية، تبدو هذه الأنشطة مستفزة لأمنها الوطني. ولذا بلغ الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، مبلغ ما هو عليه الآن من عناد وتشبث بمواقفه المعادية لأميركا. لكن على أرجح الظن، فإن في تحريك مجموعات من حاملات الطائرات وإرسائها في المياه الإقليمية، ما يوحد قسماً كبيراً من المعارضين له، ويدفعهم للالتفاف حوله، بدلاً من تأجيج نار المعارضة وزيادة الضغوط الداخلية الممارسة عليه. وهل يتوقع في ظل ظرف كهذا –تواجه فيه إيران خطراً- أن يزداد تأثير المعتدلين على السياسات الوطنية؟ هذا ويتفق الخبراء الإيرانيون على نظرة الاستخفاف التي يزعمون أن شعوب المنطقة الشرق أوسطية، تنظر بها إلى الوجود العسكري الأميركي في المنطقة. وعليه فإن شن هجوم كبير واسع النطاق على طهران، إنما يتطلب وجود قوة عسكرية أكبر مما هي عليه الآن بكثير. وعلى سبيل المثال، فسيكون لزاماً على أميركا نشر المزيد من كاسحات الألغام، من أجل التعامل مع قدرة إيران العالية على زرع الألغام البحرية. أما لحماية مصالحها وحلفائها في منطقة الخليج، من خطر هجمات صاروخية إيرانية محتملة، فلابد لواشنطن من نشر نظم دفاع مضادة للصواريخ، أكبر عدداً وأكثر فاعلية من النظم الموجودة حالياً. ولذلك ففي وسع كل مراقب للسياسات الأميركية، ولما لحق بالحزب "الجمهوري" من انتكاسات سياسية كبيرة خلال الأشهر القليلة الماضية، أن يقدر للكونجرس وللشعب الأميركي بصفة عامة، عدم الميل إلى التهور في دعم مغامرة عسكرية خطيرة كهذه في إيران، فوق المأزق الذي تواجهه أميركا سلفاً في كل من أفغانستان والعراق. وفي وسع طهران، أن تلحق الضرر بحياة الجنود الأميركيين في العراق، مع العلم بأن "مجموعة دراسة العراق"، قد وصفت الوضع هناك، بأنه خطير وآخذ في السوء والتدهور أصلاً. لذا فإنه ليس من مجال لتغيير هذا الاتجاه السلبي، بمجرد إرسال 20 ألف جندي إضافي، إلى القوة العسكرية الأميركية البالغ قوامها 140 ألف جندي هناك. ولن نكشف سراً جديداً إن قلنا إن إيران قد مضت شوطاً بعيداً في دعمها للمتمردين، ومدهم بأحدث الأسلحة والقدرات العسكرية. وإلى جانب ذلك، فإن في وسع طهران، توسيع وممارسة نفوذها ودورها في أفغانستان أيضاً، مما تكون له عواقب جد كارثية على قوات حلف "الناتو"، والقوات الأميركية هناك. ومن جانبها فقد مضت واشنطن مدى أبعد، من مجرد إعادة نشر طائراتها وصواريخها الهجومية حول إيران. فقد اعتقل جنودها في العراق، عناصر ممن قيل إنهم أعضاء بعثة دبلوماسية إيرانية في إقليم كردستان بشمالي العراق، متهمة إياهم بالتجسس لصالح طهران. إلا أن الحكومة العراقية استشاطت غضباً من ذلك الإجراء، وردت بأن الإيرانيين أتوا إلى العراق بدعوة رسمية من بغداد. يذكر أن حكومة نوري المالكي، تعمل جنباً إلى جنب مع طهران، وإن كان كل من وزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، وكذلك وزير الدفاع الجديد، روبرت جيتس، إلى جانب السفير الأميركي بالعراق –المنتهية فترة بعثته الدبلوماسية الحالية- زلماي خليل زاد، قد أجمعوا على انتقادهم لإيران، واتهامهم إياها بالسعي لزعزعة الوضع في العراق، وإحباط السياسات الأميركية في المنطقة بأسرها. ومن ناحيته أعلن زلماي خليل زاد، اعتزام بلاده ملاحقة ما أسماه بـ"الشبكات الإيرانية " داخل العراق. إلى ذلك يذكر أن "المعهد الملكي للشؤون الدولية" في لندن، كان قد نشر تقريراً في شهر أغسطس الماضي، حظي بتداول واسع النطاق، وتمحور محتواه الرئيسي حول هذه الجملة، التي اقتبس منها عنوانه: "لاشك أن إيران هي المستفيد الأول من الحرب على الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط". وأشار معدو هذا التقرير، إلى أن المتطرفين السُّنة في أفغانستان، كانوا أعداء ألداء للمؤسسة الشيعية الحاكمة في طهران، وإلى أن بغداد السُّنية، كانت قد خاضت حرباً باهظة التكلفة مع طهران، طوال السنوات الممتدة من1980- 1989. وأضاف التقرير قائلاً إن واشنطن قد أضافت إلى مشكلاتها في المنطقة، مشكلة إضافية بتأييدها للقصف الإسرائيلي للبنان، وبتجاهلها لمأساة الشعب الفلسطيني. وعلى سبيل المقارنة، كان الرئيس الأميركي الأسبق، ثيودور روزفلت قد دعا إلى أن تتحدث أميركا بلطف، بينما تمسك عصاها الغليظة. وقد آن للرئيس بوش أن يتذكر جيداً تلك النصيحة الغالية الحكيمة، وأن يتصدى لخطر الأزمة الإيرانية، بمراجعة استراتيجياته الحالية إزاءها.