ليست هناك فائدة عملية ملموسة يمكن أن تجنيها الولايات المتحدة من تأييد الدول العربية المعتدلة لاستراتيجيتها، والتي توصف بأنها جديدة, في العراق. فهذا التأييد الذي كان هو الهدف الأول لجولة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في المنطقة قبل عدة أيام، ليس أكثر من موقف سياسي رمزي يصعب تصور أن تكون له نتائج على الأرض. وإذا كان الأمر كذلك، فهو يعني أن "المحافظين الجدد" الأميركيين يميلون إلى خداع أنفسهم وليس فقط التلاعب بغيرهم. وقد أثبتت جولة رايس، ومن قبلها مضمون استراتيجية بوش للعراق، أن هذا التيار مازال مهيمناً على إدارته، رغم إبعاد دونالد رامسفيلد عن وزارة الدفاع، وخفوت صوت رفاقه في المواقع الأخرى منذ هزيمة "الحزب الجمهوري" واستعادة "الديمقراطيين" الأغلبية في مجلسي الكونغرس في نوفمبر الماضي. فالاستراتيجية التي أعلنها بوش قبل أسبوعين تنطق بمنهجهم القائم على أن القوة أولاً والقوة أخيراً, وبتصورهم الذي يحصر القوة في السلاح والحرب, وبالمناعة التي يتميزون بها تجاه بعض من أهم شروط النجاح؛ مثل الاستعداد للمراجعة وإعادة النظر وتغيير ما يعوق هذا النجاح أو يقود إلى الفشل. فالعمود الفقري للاستراتيجية "الجديدة" هو تعزيز القوات الأميركية وبالتالي تصعيد الحرب في العراق, لأن رصد مليار دولار لمساعدة العراقيين ليس أكثر من ذر للرماد في العيون على ضوء أن التكلفة الإجمالية لهذه الحرب منذ بدايتها تجاوزت 350 مليار دولار يوم إعلان تلك الاستراتيجية. أما الدعوة إلى إشراك السُّنّة بشكل أكبر في عملية سياسية شبعت فشلاً، فهي أيضاً ليست أكثر من وهم على ضوء المدى الذي بلغه الانقسام المذهبي. ومثلما لم تأتِ قرائح رجال بوش بما هو أهم من إرسال نحو واحد وعشرين ألف جندي جديد إلى العراق لخوض حرب يظنونها نهائية في بغداد والأنبار, كانت قاذفاتهم تكمل من الجو ما بدأته القوات الإثيوبية على أرض الصومال التي هربت قوات بلادهم منها قبل 13 عاماً. فقد أعفتهم أديس أبابا من احتلال دولة أخرى, وشنت الحرب على الأصوليين الصوماليين بالوكالة عنهم. وليس مدهشاً, في ضوء حصانتهم تجاه استيعاب الدروس, أن يصيبهم الوهم الذي استبد بهم من قبل عقب حربهم على كل من أفغانستان والعراق. فقد شبِّه لهم عقب إسقاط حكومة "طالبان" أن الأمر استتب لهم, ثم خُيّلَ إليهم مثل ذلك حين انهار نظام صدام حسين. غير أن وهم الانتصار, هنا وهناك, لم يلبث أن بدده بدء التمرد في العراق بعد أقل من أربعة شهور على سقوط بغداد وتصاعده بسرعة لم ينافسه فيها إلا تنامي الصراع المذهبي بين جماعات شيعية وأخرى سُنّية, ثم نجاح عناصر "طالبان" وحلفائهم من رجال القبائل في إعادة تجميع صفوفهم واستعادة قدرتهم القتالية وتكبيد قوات حلف شمال الأطلسي "الناتو" خسائر متزايدة. والأرجح أن هذا السيناريو سيتكرر في الصومال, خصوصاً في ظل مؤشرات تفيد أن قوات "المحاكم الشرعية" لم تُهزم نهائياً وإنما تراجعت مثلما فعل قسم كبير من قوات "طالبان" وأجهزة صدام حسين. وليس مستغرباً أن يغيب مثل هذه الاستنتاجات السهلة عن جهابذة "المحافظين الجدد" الذين تعودوا أن يروا ما يرغبون في رؤيته دون غيره, وحرمتهم غطرستهم الشديدة من النزول على مقتضيات الواقع. ولكن ما يدفع إلى الدهشة هو أن يسلم الرئيس بوش عقله لهم بعد أن تسببوا في هبوط شعبيته إلى مستوى قياسي قلَّ مثله في التاريخ الأميركي, واضطراره لأن يذهب إلى أقصى مدى في استخدام "فزّاعة" الإرهاب توسلاً لمساعدة الدول العربية وترهيباً للرأي العام الأميركي من 11 سبتمبر آخر. ورغم أن إدارة بوش استخدمت الهجمات التي وقعت عام 2001 مراراً وتكراراً لاستدرار عطف الرأي العام في الولايات المتحدة, فقد وصل رئيسها في خطابه الذي أعلن فيه استراتيجيته "الجديدة" للعراق، إلى حد ترهيب شعبه. فقد خاطب, في ذلك الخطاب, غرائز الخوف لدى الأميركيين من أن يضربهم الإرهاب مجدداً. غير أنه لم يفلح في زيادة شعبية استراتيجيته التي لم يؤيدها إلا نحو ثلث الأميركيين حسب الاستطلاعات التي أجريت حولها, فيما لم تقل نسبة معارضيها عن 60%. والأرجح أنه لن يحقق نتيجة أفضل بكثير في توسله المساعدة من مصر والسعودية والأردن, وهي الدول التي حاول في الخطاب نفسه ترهيبها مما يمكن أن يترتب على انتشار الإرهاب في المنطقة في حال هُزمت الولايات المتحدة في العراق. وربما نسي بوش أن قادة بعض هذه الدول نصحوا إدارته بالتريث في شن حرب عام 2003 حتى لا يتحول العراق إلى مرتع للإرهاب. قد لا يعرف بوش أن من حاول ترهيبهم من خطر الإرهاب، عرفوا هذا الخطر قبل أن يفطن هو ورجاله من "المحافظين الجدد" إليه بسنوات طويلة. وربما لم يبلغه أن بعض قادة الدول العربية الذين حذرهم من أن هزيمة بلاده في العراق خطرٌ عليهم، واجهوا هذا الخطر حين كان بعض من سبقوه إلى البيت الأبيض لا يرون فيه تهديداً بل مصلحة أميركية خلال الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. غير أن أهم ما أغفله بوش, في رسالته إلى هذه الدول, هو أن سياسة إدارته ورعونة "المحافظين الجدد" المتنفذين فيها, خلقتا أزمة ثقة بين واشنطن والعواصم التي يتوسل الآن مساعدتها في العراق. كانت النظرية التي طرحها بعض أركان إدارة بوش تحت عنوان عدم الاستقرار البناّء Constructive Instability (أو الفوضى الخلاقة وفق الترجمة العربية الشائعة)، هي التهديد الأول الذي واجه حكومات هذه العواصم خلال وبعيد الحرب على العراق. لم يكن الإرهاب هو الخطر الأول بالنسبة لهذه الدول لأنه ليس جديداً عليها. كما تعرف كيف تواجهه وتحد من خطره. لكن ما كان جديداً ولا طاقة لها به هو سعي "المحافظين الجدد" إلى تغيير المنطقة انطلاقاً من العراق. لم يفطن أركان إدارة بوش إلى مغبة ترويع أصدقاء الولايات المتحدة في العالم العربي. فقد حالت غطرستهم دون إدراك أنهم لا يمكن أن يروعوا أصدقاء ويطلبون منهم المساعدة في الوقت نفسه. وكان رد الفعل الطبيعي من جانب هؤلاء الأصدقاء, الذين يتوسل بوش مساعدتهم الآن, هو الامتناع عن تقديم أي عون كبير للولايات المتحدة في العراق, مع تمني الفشل لها ما دام نجاحها يعني أنها ستمضي قدماً في تغيير المنطقة بما ينطوي عليه ذلك من ممارسة ضغوط على دول أخرى. وقد يمتد التغيير الذي استهدفته الولايات المتحدة إلى هذه الدول نفسها ولكن ليس عبر حرب أو حروب أخرى. هكذا أدت رعونة بعض أقطاب إدارة بوش إلى أزمة ثقة مع أصدقائها الذين لم يتحمسوا كثيراً لمساعدتها حين دارت الدائرة على قواتها في العراق, فهم لم يرفضوا فقط إرسال قوات عربية، وإنما وضعوا سقفاً للتعاون مع الحكومات العراقية التي تم تشكيلها منذ منتصف عام 2004. وهذا أمر منطقي تماماً ما دام من تُطلَبُ منه المساعدة يخشى أن يكون أي عون يقدمه بمثابة مسمار يُدق في نعشه. ورغم أن هذا الخطر تراجع الآن, وربما يكون قد زال, فليس متوقعاً وجود استجابة قوية أو كاملة من الدول العربية التي توسل بوش مساعدتها في تنفيذ استراتيجيته "الجديدة". فالأرجح أن تقدم هذه الدول عوناً أكبر من ذي قبل, ولكن ليس إلى المدى الذي تتطلع إليه واشنطن. وهذا هو ما يجوز استنتاجه من محادثات وزيرة الخارجية الأميركية على المستوى الثنائي في أربع دول عربية، وفى اللقاء التساعي بالكويت (6+2+1). فإذا كانت أزمة عدم الثقة بين واشنطن وأصدقائها العرب تراجعت كثيراً في الشهور الأخيرة, فمازالت ثقتهم في الحكومة العراقية الحالية ضعيفة. وقد ازدادت هذه الأزمة بسبب توقيت إعدام الرئيس العراقي السابق في فجر أول أيام عيد الأضحى المبارك، والطريقة التي أُعدم بها, إلى حد أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي هدد بقطع العلاقات (غير الموجودة فعلياً) مع بعض هذه الدول بدعوى أن موقفها تجاه إعدام صدام يمثل تدخلاً في شؤون بلاده وكأنها ليست خاضعة لاحتلالين (أميركي وإيراني) وليس احتلالاً واحداً. والتدهور الذي ازداد في العراق، أصبح مصدر خطر على أية دولة عربية تتدخل. ولذلك تخشى هذه الدول أن تحترق أصابعها إذا مدتها للمساعدة. وهذا يكفي كسبب لوضع سقف لاستجابتها إلى توسلات الرئيس الأميركي حتى إذا كان خوفها من انقلاب إدارته عليها حال انتصارها قد انحسر أو حتى زال.