تقف الدولة المعاصرة في كل الأقطار أمام محكمة التاريخ. ذلك أن الدولة ككيان قانوني حديث أخذت على عاتقها القيام بمسؤوليات محددة تجاه المواطنين، ومن هنا حين تقف أمام محكمة التاريخ، لابد لها أن تقدم سجلاً بإنجازاتها في هذا المجال. لقد حكمت محكمة التاريخ على الدولة الشيوعية الشمولية بالزوال النهائي بعد أن فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الحرية السياسية، والتي ألغتها في سبيل تحقيق العدالة الاجتماعية. وتبين أنها حتى في مجال إشباع الحاجات الأساسية للمواطنين لم تستطع أن تفي بوعودها. وبعد زوال الدولة الشمولية أصبحنا في مواجهة جيوب صغيرة من الدول السلطوية التي فشلت في الدفاع عن أنفسها أمام محكمة التاريخ بحكم ممارستها للقمع السياسي من ناحية، وشيوع الفساد فيها من ناحية أخرى، والذي جعل قلة من الشرائح الطبقية تنهب ثروة البلاد على حساب جماهير الشعب الغفيرة. وتبقى الدولة الليبرالية سواء منها النماذج القديمة التي تمر بأزمات عنيفة نتيجة لسلبيات العولمة التي أدت إلى موجات من التهمبش الاجتماعي، "دولة الرفاهية" أو النماذج الصاعدة التي تطمح في أن تنتقل من السلطوية إلى الليبرالية. وهذه النماذج قديمها وجديدها تجابه مخاطر التشتت والضياع بتأثير العولمة، ومن هنا تدعو الحاجة إلى صياغة عقد اجتماعي جديد. وقد سألني بعض الكتاب السياسيين العرب بعد أن اطلعوا على مقالي السابق "تعديل دستوري أم عقد اجتماعي جديد؟": هل مصر فقط هي التي ينبغي على الدولة فيها أن تبرم عقداً اجتماعياً جديداً بينها وبين مواطنيها، أم أن هذا الوضع ينطبق على الدول العربية جميعاً بدون استثناء، ونعني الدول التي لها دستور وتلك التي لا دستور لها حتى الآن؟ والواقع أن الإجابة على هذا السؤال المهم تتمثل في أن الحاجة إلى عقد اجتماعي جديد حاجة عربية عامة، بل لو أردنا الدقة لقلنا إنها أصبحت حاجة عالمية، بعد أن تغيرت وظائف الدولة المعاصرة تغيرات جوهرية. وقد أجاد وضع المشكلة "سيرج سير" الأستاذ بجامعة باريس الثانية في مقال وجيز له، بالغ الأهمية، عنوانه "الدولة بين التشتت والعولمة". ويقرر هذا الباحث أن الدولة الآن تتم محاكمتها أمام محكمة التاريخ. وهي في أسوأ الحالات مطلوب منها أن تحل نفسها حتى يتاح لها أن تعاد صياغتها لأن هناك تيارات عنيفة ذات اتجاهات مختلفة تتجاذبها. أما في أحسن الحالات فالدولة مطلوب منها أن تغير من طبيعتها. والنقطة الثانية التي تستحق المناقشة هي ما هو ملحوظ من انهيار الدولة المعاصرة، والسؤال هنا هل هذا الانهيار نوع من أنواع التشتت أو على العكس علامة على تحولها إلى نمط جديد من الدول؟ وتبقى النقطة الثالثة والأخيرة والتي تتعلق بالعولمة والتي -فيما يبدو- هي السبب الرئيسي في التحولات التي طرأت على طبيعة الدولة، والتي تجعلنا نتساءل عن جوهرها الحقيقي، وهل هي مجرد قناع يخفي لعبة الهيمنة القديمة، مما يجعلنا نتحدث لا عن العولمة ولكن عن هيمنة العالم الجديد؟ أسئلة كلها مشروعة على صعيد المجتمع العالمي، وهي تحتاج إلى مناقشات مفصلة قد نعود من بعد إلى الخوض فيها. ولكن يعنينا الآن أن نتحدث على الصعيد العربي أولاً ثم على الصعيد المصري ثانياً. إذا تحدثنا عن الحاجة إلى عقد عربي جديد فلابد أن نبدأ من الطرح الشامل الذي طرحه المفكر اللبناني المعروف غسان سلامة الذي سبق له أن شغل منصب وزير الثقافة في لبنان. ولاشك أن غسان سلامة يعد رائداً في بحث الموضوع بكتابه "نحو عقد اجتماعي جديد: بحث في الشرعية الدستورية" الذي نشره "مركز دراسات الوحدة العربية" في يونيو 1987. ويبدو غسان سلامة موفقاً في طرح المشكلة لأنه ربط ربطاً وثيقاً منذ البداية بين الشرعية الدستورية وضرورة صياغة عقد اجتماعي جديد. غير أن سلامة لم يتح له أن يتحدث عن مضمون هذا العقد الاجتماعي الجديد بالتفصيل إلا في محاضرته التي ألقاها في بيروت أمام وزراء المالية العرب وذلك في 18 مايو 2004. في هذه المحاضرة استطاع غسان سلامة أن يضع يده على المعالم الرئيسية للعقد الاجتماعي العربي الجديد. وهو ينطلق من أهمية تبني رؤية واضحة تضع في اعتبارها التحولات الكبرى التي لحقت ببنية المجتمع العالمي (راجع كتابنا الصادر حديثاً الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي: من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعرفة" دار رؤية، 2007.) ولعل أهم هذه التحولات مراجعة مفهوم سيادة الدولة، وتنامي ظاهرة الإرهاب، ومنع الدول العربية -بتعلات شتى- من الحصول على الأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسها، بحكم نظام الرقابة الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية على العالم العربي. وانطلق غسان سلامة من بعد ليعدد عشر معادلات أساسية تكون بنية العقد الاجتماعي العربي الذي يدعو إليه. المعادلة الأولى أنه على الحكومات العربية في مجال الإصلاح أن تجد لنفسها طريقاً بين الضغوط الخارجية والمطالب الداخلية. وفي هذا المجال هناك ضرورة لبناء الثقة الضائعة بين الدولة والمجتمع. وهناك إجماع بين العلماء الاجتماعيين أنه بغير شيوع الثقة في المجتمع بين كافة الأطراف، لن تتحقق التنمية المستدامة المرجوة. ويمكن هنا الرجوع إلى كتاب فوكوياما "الثقة" وإلى كتب "أتزيوني" في هذا المجال. والمعادلة الثانية ضرورة تأسيس نظام عربي مشترك لا تعتبره أي دولة عربية تهديداً لمصالحها المشروعة. والمعادلة الثالثة تتعلق بالعلاقات بين الدول العربية النفطية الغنية والدول العربية الفقيرة. والمعادلة الرابعة تتعلق بأهمية إقامة التوازن بين نهج عربي كلى للإصلاح لا يتعارض مع خصوصية كل دولة. والمعادلة الخامسة هي الحاجة إلى إقامة توازن جديد بين حقوق الأفراد وحقوق المجتمعات. والمعادلة السادسة هي أهمية إقامة التوازن بين الدولة والسوق. والمعادلة السابعة تتعلق بأهمية إقامة التوازن بين حق الدولة في فرض النظام وخاصة في مجال الضبط الضريبي بالنسبة لمختلف قطاعات الإنتاج الاقتصادي، ووجود القطاع غير الرسمي في المجتمع في نفس الوقت. والمعادلة الثامنة تتعلق بإيجاد التوازن بين الأجيال. والمعادلة التاسعة عن العلاقات بين الرجال والنساء من زاوية المساواة والتمكين. والمعادلة العاشرة والأخيرة تتعلق بالحفاظ على هويتنا وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالصلات والتعاون مع الآخر. ومن الواضح أن كل معادلة من هذه المعادلات العشر تثير مشكلات نظرية وتطبيقية شتى، تحتاج إلى مناقشات تفصيلية ينبغي القيام بها لإفساح المجال للطرح المنهجي لقضية العقد الاجتماعي العربي الجديد. ويمكن القول إن كل هذه المشكلات تعرض لها المثقفون العرب في مؤتمر الإصلاح العربي الأول الذي عقدته مكتبة الإسكندرية والذي أنتج "وثيقة الإسكندرية" التي عبرت عن مطالب نخبة واسعة وعريضة من السياسيين والمثقفين والباحثين العرب، بالإضافة إلى ممثلي مؤسسات المجتمع المدني. وقد انطلقت الوثيقة من مسلمة مبناها أن تغيرات المجتمع وتحولات النظام الإقليمي العربي تدعو لإعادة النظر في أمور السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة. لقد كانت وثيقة الإسكندرية سعياً لتحقيق نهضة عربية جديدة في عالم متغير.