عشرون عاماً مضت هذا الشهر على تلك الجريمة البشعة التي ارتكبها قضاة "نظام مايو" في حق الأستاذ المهندس محمود محمد طه مؤسس حركة "الإخوان الجمهوريين"، فما تزال الاحتفالات بإحياء ذكرى اغتياله تتوالى في السودان. وبالأمس انتقلت احتفالية الذكرى من الخرطوم العاصمة إلى مركز عبدالكريم ميرغني الثقافي في أم درمان، التي شهدت مولد تلك الحركة الجسورة في أربعينيات القرن العشرين، والتي تعرّف فيها السودانيون على نمط فريد من المتعلمين السودانيين، كانت طريقتهم في نشر الدعوة التجريدية التي حمل لواءها الأستاذ شيئاً جديداً على الساحة السياسية والفكرية السودانية. كان يُقال في ذلك الزمان إن أول شروط الحصول على عضوية الحركة "الجمهورية" أن يفتتح العضو المرشح نشاطه بمخاطبة "الجمهور" في ميدان أو ساحة عامة يذيع فيها على الناس رسالة "الجمهوريين" معرضاً شخصه إلى الشرطة العلنية والسرية، بل وإلى غضب بعض الجمهور الذي لم يكن في ذلك الوقت يعرف عن رسالة "الجمهوريين" سوى ما كان -وما يزال- يشيعه خصومها عن رئيسها المؤسس، وكيف أنه تارك للصلاة وخارج عن الملَّة! الاحتفالات بذكرى الأستاذ محمود محمد طه هذا العام، اتخذت مظهراً ومنبراً سياسياً، تجاوز مظاهر التأبين المعهودة لينتظم تحت شعار "الحرية لنا ولسوانا" وهو أحد الشعارات التي رفعها مبكراً المهندس المثقف والمفكر الحر محمود محمد طه. وإذا كانت الاحتفالات قد افتتحت في دار "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بالخرطوم وتحت ضيافتها ورعايتها، فإن لذلك الأمر مغزى ومعنى كبيرين أدركه جمهور العاصمة، الذي توافد على دار الحركة الواسعة حتى فاضت به الدار والطرق المؤدية إليها. وإذا كان الاحتفال الذي جرى في "أم درمان" قد رعاه ونظمه "اتحاد الكُتاب السودانيين" في مركز عبدالكريم ميرغني، فإن لذلك أيضاً معناه العميق. فـ"اتحاد الكتاب السودانيين" هو إحدى منارات الاستنارة والتقدم العريقة في هذا البلد ومركز عبدالكريم ميرغني الحديث التأسيس قد اكتسب سمعته الطيبة وصار رئة ومتنفساً لكل محبي الثقافة والملتزمين برسالة ونهج الاستنارة والتقدم الذي كان المرحوم عبدالكريم ميرغنى أحد رواده الكبار. وقد يختلف الناس، أو يتفقون حول رؤية الأستاذ محمود محمد طه ومشروعه الإسلامي التجديدي وبعض مواقفه السياسية والفكرية، لكن الأمر الذي لا خلاف حوله، حتى بين مخالفيه في الرأي، هو أنه كان قامة فكرية وثقافية كبيرة جسدت سيرة حياته ومماته، شجاعة الرأي التي هي أولاً وقبل شجاعة الشجعان. أنه في حياته الشخصية وسلوكه الشخصي كان ملتزماً تماماً بالأفكار والرؤى التي نادى بها وعمل لها طوال حياته. فقد كان رحمه الله إنساناً بسيطاً في ملبسه ومأكله وكان محباً حقيقياً للفقراء والبسطاء. وكان ذلك الحب نابعاً عن قناعة وإيمان إنساني زانتهما وعمقتهما ثقافة واسعة وعلم غزير، سعى إليه بجد واجتهاد وصبر جميل. وكان أميز ما يميزه عن أبناء جيله من الخريجين السودانيين الأوائل إيمانه العميق بقيم التسامح وحق الناس في حرية الرأي والفكر والعدل والحياة الكريمة، حق يتساوى فيه السودانيون جميعاً، ويدعو محمود طه إلى ذلك بالتي هي أحسن، مستلهماً نهجاً وأسلوباً محمدياً رآه هو رسالة الإسلام الحقيقية والباقية أبداً. وعندما أعلن وجاهر برأيه المعروف في قوانين سبتمبر الموصوفة بأنها الشريعة الإسلامية، وقال إنها ستقود إلى تقسيم الوطن, كان يعلم سلفاً أن هذا الموقف الشجاع سيقوده إلى منصة الإعدام، وكان بذلك سعيداً وراضياً فقد واجه الموت بابتسامة حلوة ما تزال صورتها مرسومة في قلوب كل السودانيين الذين رأوها بعد أن سقط نظام مايو، وبقيت ذكرى استشهاده يحتفل بها السودانيون الذين يعرفون ويقدرون معاني شجاعة الرأي والثبات على الموقف.