في يناير من عام 2005 وبينما كان الرئيس الأميركي جورج بوش يروج لآرائه بشأن مشروع تغيير الشرق الأوسط كانت تجري بالموازاة مع ذلك حملة أخرى لبناء توافق يسمح له بضرب إيران. فقد أعلن وقتها نائب الرئيس ديك تشيني أن الانشغال الأول لواشنطن ليس الديمقراطية، ولا حتى محاربة الإرهاب، بل "البرنامج النووي الإيراني الجديد". كما أن صحفي التحقيقات الأميركي المخضرم "سيمور هيرش" ذكر أن القوات الخاصة الأميركية تقوم بعمليات داخل إيران تمهيداً لضربة جوية محتملة للمنشآت النووية. أما صحيفة "واشنطن بوست" فقد كشفت في تقرير لها نشر بتاريخ 13 فبراير أن إدارة بوش انخرطت في عمليات تجسس سرية على إيران من خلال طائرات الاستطلاع بدون طيار استعداداً لقصف جوي محتمل. والأكثر من ذلك ما ذكره الصحفي "هيرش" من أن بعض المسؤولين السابقين أطلعوه على أن بعض الدوائر تبحث في مسألة استخدام أسلحة نووية تكتيكية لاختراق التحصينات النووية الإيرانية. لكن رغم ما بدا أنها حملة أميركية تهدف إلى تمهيد الأجواء للانقضاض على إيران أوقفت فجأة الإدارة الأميركية خططها وخففت من سرعتها نحو إشعال حرب جديدة في الشرق الأوسط، إذ تتعدد الأسباب والدوافع التي حملت إدارة بوش على تغيير رؤيتها على الأقل في الوقت الراهن. أولها المعارضة التي أبدتها هيئة الأركان الأميركية إزاء استخدام السلاح النووي في الحرب ضد إيران. فاستخدام السلاح النووي منذ إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناكازاكي في 1945 ستكون له تداعيات خطيرة. كما أن اللجوء إلى هذا الاختيار الرهيب وما سيسفر عنه من خسائر كبيرة في الأرواح، فضلاً عن منح النموذج السيئ للدول الأخرى دفع الإدارة الأميركية إلى مراجعة حساباتها. وهكذا نجحت العناصر المعتدلة داخل المؤسسة العسكرية الأميركية في كبح جماح الإدارة والحد من غلوائها. العامل الثاني الذي حال دون مضي واشنطن في خططها لضرب إيران هو الضعف الشديد الذي بات يعاني منه أقرب حلفاء أميركا توني بلير بعد مواجهته لسلسلة من الفضائح المالية، فضلاً عن افتضاح الأكاذيب المرتبطة بالمعلومات الاستخباراتية التي ساقها لتبرير الحرب على العراق. والواقع أنه لا الرئيس بوش ولا رئيس الوزراء توني بلير أصبح قادراً على حشد التأييد الوهمي الذي حظي به عشية غزو العراق. ويبقى العامل الأهم وراء تخفيف "صقور" إدارة بوش من لهجتهم اتجاه إيران هو إهدار الرئيس بوش لرأسماله السياسي عقب الانتخابات التشريعية التي شهدتها الولايات المتحدة وجاءت مخيبة لآمال "الجمهوريين" الذين وقفوا إلى جانب بوش في حربه على العراق. وإذا كان هناك من شك مازال يراود الرئيس بوش حول مضامين الرسالة الانتخابية الأخيرة التي وجهها إليه الشعب الأميركي فقد أظهر استطلاع للرأي أجري عقب انتخابات الكونجرس الأخيرة بأن 80% من المستجوبين يؤيدون إجراء حوار مع سوريا وإيران كما أوصى بذلك تقرير "بيكر- هاملتون". وفي ظل هذا الوضع لم يعد بإمكان بوش خداع نفسه بأن الشعب الأميركي قد يسانده في مغامرة عسكرية أخرى غير محمودة العواقب. يضاف إلى ذلك كله الهزيمة الساحقة التي مني بها أنصار الرئيس الإيراني المتشدد أحمدي نجاد في الانتخابات الأخيرة التي منحت الأفضلية للعناصر المعتدلة والإصلاحية. وإذا ما عرفنا أن إدارة بوش كانت توظف التصريحات المتشددة للرئيس الإيراني للترويج لخططها بضرب إيران فإن عودة "الإصلاحيين" الإيرانيين إلى الصورة بعدما تم إقصاؤهم طيلة الفترة السابقة يسحب البساط من تحت أقدام بوش و"الصقور" في إدارته ويقوض الحجج التي يستندون إليها. فقد أظهرت نتائج الانتخابات الإيرانية أن السلطة في إيران ليست بيد تيار واحد، حيث يصعب على الولايات المتحدة شخصنة الحرب مثلما قامت بذلك ضد صدام حسين. كما أن أية حرب قد تشنها واشنطن على طهران ستقوي موقف المتشددين في النظام الإيراني وستحشد الدعم الشعبي وراءهم لاستكمال المشروع النووي، فضلاً عن إغراق المنطقة في دوامة من العنف وعدم الاستقرار، وهذا ما لا يريده أحد طبعاً.