اختَطَف مسلحون عضواً في "البرلمان العراقي" وسألوه: "أنت ويّانه لو ويَّاهم"؟ يعني أنت معنا أم معهم؟ قال: "ويَّاكم"، أيْ معكم. قالوا له: "هذه نهايتك... نحن ويَّاهم". لعلّ هذه النكتة تفسر سبب تغيُّب أعضاء ما يُسمى "مجلس النواب" في العراق عن حضور الجلسات. وقد تصوّرتُ موضوع تغيُّب النواب نكتة عندما وصلني بالبريد الإلكتروني نداء موجه إلى "هيئة رئاسة المجلس" يطالب "بحق القَسَم الذي أقسموه تفعيل المادة الثانية عشر من القانون الداخلي للمجلس، والتي تَنُصُّ على أن يُنشر الحضور والغياب في نشرة المجلس الاعتيادية وإحدى الصحف". واختُتم النداء بعنوان البريد الإلكتروني للراغبين بالتوقيع عليه وإرساله إلى مجلس النواب. وعندما تتبّعت العنوان إلى موقع إنترنت "مجلس النواب العراقي" فوجئتُ بتقرير عنوانه: "اجتماع السيد عارف طيفور، نائب رئيس المجلس بالسيدة مارغريت سكوبي مسؤولة القسم السياسي في السفارة الأميركية". ذكر التقرير أن الاجتماع تناول "الاستراتيجية الحديثة للعراق.. وميزانية العراق المالية لعام 2007 .. وموضوع الفيدرالية.. وسبل تفعيل عمل مجلس النواب العراقي عن طريق اتخاذ خطوات مناسبة من شأنها تمكين وتطوير عمله.. وتمّ التطرق إلى وضع المعالجات المناسبة لموضوع الغيابات المتكررة لأعضاء المجلس". ولم يذكر التقرير المعالجات، التي توصي بها مسؤولة القسم السياسي في السفارة الأميركية، إلاّ أن تصريح الرئيس الأميركي حول "ناكري الجميل العراقيين" لا يبشر بالخير. جاء ذلك في الردّ على سؤال برنامج "60 دقيقة" في تلفزيون "سي بي إس" الأميركي عمّا إذا كان على الإدارة الأميركية الاعتذار للعراقيين عن أدائها غير الحسن. تساءل بوش عن "مدى اعتراف العراقيين بالجميل لتحريرهم من الطاغية"، وتحدث عن "التضحيات العظيمة، التي قدمها الأميركيون"، وقال: "هل نحن لم نحسن أداء عملنا، أم هم الذين لم يحسنوا القيام بعملهم"؟!. وقد نعثر على الجواب عن سؤال الرئيس بوش في ميزانية العراق المالية لعام 2007 التي يُفترض أن يقرَّها النواب في الأسبوع المقبل. "تُساهمُ الميزانية التي يحوط الظلام كثيراً من فقراتها في تعميق الارتياب العام بين الجماعات الطائفية، وكذلك في زيادة الشكوك الواسعة الانتشار بقدرة حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي على إدارة الدولة". هذا هو التقييم العام للميزانية، حسب تقرير مكتب صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في بغداد. وهو تقييمٌ بالغ التهذيب لعملية "ذبح" أموال الشعب العراقي. تدل على ذلك أرقام الميزانية البالغة 41 مليار دولار، ومنها مليارا دولار خارج نطاق سيطرة الحكومة. تُنفق هذا المبلغ وكالاتٌ لا يشرف عليها رئيس الحكومة، ولا توجد ضوابط لإنفاقها. والضوابط معدومة أيضاً لإنفاق ملايين الدولارات المخصصة لما يُسمى برامج "الضمان الاجتماعي" الموجودة في مختلف الوزارات. تزيد الميزانية الجديدة بنسبة 60 في المئة عن ميزانية العام الماضي، وهي تعتمد بشكل أساسيٍ على مدخولات النفط البالغة 30 مليار دولار. وفي حين تعاني أكثر دول العالم من عجز موارد الميزانيات العامة تعجز حكومة الاحتلال عن إنفاق الأموال المتوفرة لديها. ويثير سخرية المراقبين إعلان المسؤولين العراقيين عن تخصيص مبلغ 10 مليارات دولار لإعادة إعمار الهياكل الارتكازية. فالوزارات العراقية عجزت في العام الماضي عن إنفاق مبلغ 8 مليارات دولار جرى تدويرها للميزانية الجديدة. وتُلقي "دائرة المحاسبات العامة" في واشنطن باللوم على عجز وزارات أساسية عدّة في العراق "عن إنفاق الأموال المخصصة للإصلاحات الأساسية، وتدويرها فوائض مالية ضخمة بسبب الإدارة غير الكفء، وفشلها في إجراء مقاولات تنافسية نزيهة". هل تحلُّ المشكلة زيادة حصص المحافظات؟ يطرح السؤال باسم شريف حشيمي، وهو من أبرز المتحدثين باسم الكتل الطائفية في البرلمان، ويجيب بنفسه على السؤال: "من يضمن مراقبة الفساد هناك"؟. والميزانية ملغومة بما فيه الكفاية بفقرات عدة "ذات توجهات طائفية"، حسب "لوس أنجلوس تايمز". هذه التوجهات وراء تخصيص مبلغ 230 مليون دولار في الميزانية المالية الجديدة لتعويض ما يُسمى "ضحايا النظام السابق". وقد شكا واضعو الميزانية من ضغوط تمارسها جماعات طائفية متطرفة تريد تخصيص هذا المبلغ للمحافظات، ليس على أساس عدد السكان، بل "حجم المعاناة من نظام صدام حسين". "كيف يمكن حساب هذه المعاناة؟.. تلك هي المسألة" في تقدير كمال بصري، المستشار الاقتصادي لنوري المالكي. ويتساءل أعضاء في البرلمان، تعتبرهم الصحف الأميركية ممثلي "السُّنة" عن التعويضات الواجب دفعها لعائلات أكثر من مليون شخص توفوا بسبب نظام الحظر المفروض على العراق أكثر من 13 سنة، وعن تعويض سجناء "أبو غريب" وملايين العراقيين، الذين عُذبوا وسُجنوا وقٌتلوا وشُردوا منذ الاحتلال في عام 2003. وقد بلغ عدد قتلى المدنيين العراقيين في العام الماضي فقط، حسب التقرير الأخير لـ"الأمم المتحدة" نحو 35 ألف شخص، وعدد العراقيين المشردين واللاجئين داخل بلدهم للفترة نفسها نحو نصف مليون. مع ذلك بقي على حاله المبلغ المخصص لمعالجة مشاكل اللاجئين والمشردين، وهو 6 ملايين دولار، في حين ضاعفت الميزانية الجديدة ميزانية وزارة الخارجية ضعفين، فأصبحت 200 مليون دولار، وضاعفت مخصصات السفارات العراقية في الخارج تسعة أضعاف، وزادت ميزانية وزارة الداخلية، المتهمة بإيواء فرق القتل الطائفية بنسبة 25 في المئة عن العام الماضي، حيث بلغت مليارين و600 مليون دولار، في حين خفضت بنسبة 13 في المئة ميزانية "ديوان الرقابة المالية"، ولعلّ هذه مكافأتها عن التحقيق في اختلاس نحو مليار دولار من أموال وزارة الدفاع! الإنجاز الوحيد المرتقب لهذه الميزانية هو إحكام غلق الباب أمام أي محاولات للحصول على معونات خارجية في المستقبل المنظور. ولم يعد ممكناً إلقاء اللوم على "الإرهابيين" و"التكفيريين" و"الصدَّاميين" وغير ذلك من التبريرات، التي تحوّلت بعد ما يقرب من أربع سنوات من تكرارها إلى حجة ضد المتعلِّلين بها. فالحكومة إمّا أن تكون حكومة قادرة على حماية أمن الدولة، والحفاظ على حياة المواطنين، أو لا تكون حكومة. ومن يعدم الرئيس السابق للدولة، بالطريقة التي أعدم بها صدام حسين، يهدف إلى القضاء على أمن الدولة، وسلامة مواطنيها، وكيانها الوطني أيضاً. وما الجدوى من زيادة ميزانية ما يُسمى "مستشار الأمن القومي" بنسبة مئة في المئة؟ يُفسر النائب حسن السنيد هذه الزيادة القياسية برغبة مستشار الأمن القومي موفق الربيعي تعيين 10 وكلاء وزارات، و30 مديراً عاماً. ويتساءل السنيد، الذي يُعتبر من أخلص أنصار نوري المالكي، فيما إذا كانت الغرف الثلاث المخصصة للربيعي كافية لوضع هذا العدد من الموظفين الكبار؟! لعل الصراع على غرف "المنطقة الخضراء" يفسر الأداء المستميت لمستشار الأمن القومي في غرفة إعدام الرئيس العراقي الراحل. وليغفر الله لأعضاء مجلس النواب، الذين يجازفون بحياتهم في الأسبوع المقبل بالذهاب إلى "المنطقة الخضراء" والمصادقة على ميزانية مالية تديم ما يسميه تقرير "الأمم المتحدة" "كارثة اجتماعية نادرة المثال في التاريخ الحديث".