إن أفضل طريقة لنشر فكر ما، هي دفع صاحبه إلى حبل المشنقة، لتأخذ أفكاره طابع الخلود، ولو كانت جرعة سمية لاغتيال الوعي، وهو ما فعله عبد الناصر من خلال شنق سيد قطب، وقد يقع على أيدي الحكومة الحالية في بغداد بشنقها صدام حسين، حيث ظهرت في الإنترنت موجة من إحياء القصة القديمة، وانشقاق الفِرق حول "مرتكب الكبيرة"؛ هل هو في الجنة أم في النار؟ إن الجماهير تعشق البطولة، وتحزن للمعذبين، وتقدس الشهداء. وعندما مات "تشي غيفارا" في غابات بوليفيا، أصبحت جثته مصدر بركة يتمسح بها الفلاحون بعد أن خذلوه، كما فعل الشيعة مع الحسين. ويختلط اليوم التدين بالتشدد، والإيمان بالتعصب، والفكر بالعنف والإرهاب. لكن العبرة ليست في الشعارات بل الواقع، كما أن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة. وعندما انفجرت حوادث العنف في بلد عربي اجتمع "صوفي" مع "سلفي" يقودان إحدى العمليات العسكرية ضد النظام، فاختلفا، فهدد أحدهما الآخر أن لو صار الأمر إلى "جماعته"، فلسوف يحاكمه بتهمة الردة والكفر! فهل نحن أمام صحوة إسلامية أم غيبوبة للعقل في إجازة مفتوحة؟ إن التعصب نكبة إنسانية بكل المقاييس؛ فالتعصب البروتستانتي قضى على تراث رائع، والتعصب الكاثوليكي كان خلف تدمير حضارة "الإزتيك" الذين لم يبق من كتبهم سوى ثلاثة لا يوجد من يقرأها، والتعصب المسيحي قضى على تراث الفراعنة، فلم يبق من ينطق لسانهم، والتعصب بين المسلمين اليوم يقتل مئات الآلاف في حروب أهلية وشبه أهلية، بين شيعة وسنة، بهائيين وعلويين، دروز وإسماعيليين، أحمديين وبابيين، يزيديين وزيديين... وأصناف لا يحصيهم عد ولا يضمهم كتاب؟ والكتب التي خرجت ترصد الساحة، من اتجاهات شتى، تعطينا نتيجة لا تدعو للتفاؤل، وكأننا لسنا في حالة "صحوة إسلامية"؛ بدءاً من كتاب "نقد العقل المسلم" لعبد الحليم أبو شقة، و"الحديث بين أهل الفقه والسنة" للدكتور محمد الغزالي، مروراً بكتاب "إسلام ضد الإسلام" للصادق النيهوم، وانتهاءً بـ"الصحوة الإسلامية في الميزان" لفؤاد زكريا، و"نقد الفكر الديني" لمحمد أركون، و"تكوين العقل العربي" وبنية العقل العربي" للدكتور محمد عابد الجابري... هناك مؤشر نعرف به "الصحوة" من "الكبوة"، وأن الطفل ولد سليماً، غير مبتسر وبدون تشوهات خلقية. وهناك جدلية لولادة الحدث، فكل حدث "نتيجة" لما قبله، كما أنه بنفس الوقت "سبب" لما سيأتي بعده، في ثلاث حلقات، تبدل مواضعها باستمرار، وجدلية لا تنتهي بين تفاعل السبب والنتيجة. وهذا القانون يمكن تطبيقه بسهولة في علم الاجتماع السياسي، وتطور الحركات الإسلامية، كما في دراسة مقطع عرضي في شجرة، أو التطور الروحي الحركي عند طفل؛ فإذا كانت البدايات قد انفجرت مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا على نحو واعٍ، فلا يعني ذلك أن المخطط البياني يسير صعوداً على الدوام. بل هناك شبه إجماع على أن العقود الخمس الأخيرة، كانت ارتدادية ناكسة مقلوبة الاتجاه؛ ظلامية تعصبية مليئة بالإحباط، بين أنظمة سياسية غرقت في الديكتاتورية، وعجز اقتصادي خنق كل بادرة، واتجاهات الإسلامية دخلت في مناطحة قاسية مع الأنظمة، وانفجار سكاني يقذف بملايين العاطلين إلى شوارع مزدحمة بالفقراء. وحتى الثورة الإيرانية لم تهتد بنجم علي شريعتي المستنير، بل هيمنت عليها الأصولية التقليدية. وبعد كل ما حدث، يشتد النزاع بين اتجاهين إسلاميين: أولهما تقليدي تراثي نقلي متشدد عنفي منفصل عن التاريخ، وثانيهما عقلاني مستنير متصل بالعالم إسلامي متسامح. إن مؤشرات الصحة ثلاثة: فكر نقدي صحي، واتصال بالعالم للتعلم منه بغير عقد، وإنتاج علمي غزير. ونحن نفتقد الثلاثة؛ فمازال العقل "النقلي" يحكمنا، واتصالنا بالعالم مشوشاً يقوم في معظمه على نظرية المؤامرة، ورحمنا المعرفية رحِم عجوز عقيم. ولكن لماذا ضمر عقلنا إلى هذا الحد؟