بدلاً من الاتجاه إلى التهدئة، جدد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد منذ أيام تمسك بلاده بسياساتها النووية حتى لو صدرت قرارات دولية جديدة ضدها، وقال في كلمة ألقاها أمام البرلمان الإيراني: "إن القرار الأممي الذي صدر ضد بلاده الشهر الماضي والقاضي بفرض عقوبات عليها قد ولد ميْتاً, وإنه لن يؤثر، لا هو ولا عشرة قرارات أخرى مماثلة، على سياسة إيران واقتصادها". وتزامنت هذه التصريحات النارية مع إعلان طهران أنها ستجري مناورات عسكرية جديدة يوم الأحد المقبل تستغرق ثلاثة أيام. وطهران في مثل هذا الوقت وهذه الظروف غير مضطرة إلى هذا التصعيد وهذا الاستفزاز للولايات المتحدة والمجتمع الدولي. فبعد إصدار مجلس الأمن الدولي في 23 ديسمبر الماضي قراره 1737 بفرض عقوبات على إيران ومطالبتها بوقف برنامجها النووي الذي يخشى الغرب أن يكون هدفه صنع أسلحة نووية، من المهم لها أن تخفف تصعيدها الاستفزازي وخصوصاً أنه بات من الواضح أن "المحافظين الجدد" في إدارة بوش لا ينوون إنهاء فترة رئاسته قبل توجيه ضربة موجعة لطهران. لذا فإنه من المهم لإيران- وإن لم تعر الولايات المتحدة اهتماماً للجهود الدولية من أجل حل المشكلة النووية الإيرانية دبلوماسياً- من المهم أن تتمسك طهران بتلك الجهود سواء التي يبذلها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي أو الحكومة الفرنسية أو غيرها من الدول التي تسعى لاحتواء الأزمة بالطرق الدبلوماسية، وأن لا تساعد على تقديم مبررات للولايات المتحدة لإشعال حرب أخرى في المنطقة وأن تستفيد من المعارضة القوية داخل الولايات المتحدة لسياسة بوش تجاه إيران... وتستفيد من المواجهات التي شهدتها العاصمة الأميركية واشنطن مؤخراً بين البيت الأبيض وزعماء "الحزب الديمقراطي" الذي يسيطر على مجلسي الكونجرس بشأن سياسة الولايات المتحدة الخاصة بالعراق وإيران. وكما حدث مع العراق فإن البيت الأبيض بدأ تجهيز نفسه للحرب على إيران، وقد أكد أن الرئيس بوش والمسؤولين المدنيين والعسكريين الأميركيين قالوا جميعاً إنه إذا تبين أن "النفوذ الإيراني في العراق يؤذي جنودنا أو المدنيين العراقيين أو الجنود العراقيين، فسوف نعالج هذا الأمر"... وقد يكون المسؤولون المدنيون والعسكريون قالوا ذلك أو ربما لم ولن يقولوا ذلك- ولكن البيت الأبيض يقول إنهم قالوا- فالمهم ما يقوله البيت الأبيض لأنه هو الذي سيحدث وعلى إيران في ظل نشوتها بـ"اللعب" في مدن العراق وأزقة بغداد وحواريها أن لا تتجاهل ما فعله الرئيس بوش والبيت الأبيض قبل غزو العراق وسقوط بغداد. انتقاد السياسة الإيرانية الحالية لا يأتي من الخارج، فالانتقاد في الداخل الإيراني أقوى وأشرس وبالتأكيد هو "أصدق" وإن كنا لا نسمع ولا نرى تلك المواقف بسبب الأوضاع الداخلية لإيران ودور السلطة في تغطية وإسكات تلك الانتقادات... وآخر تلك الانتقادات كانت من رجل الدين المعارض آية الله العظمى حسين علي منتظري الذي أكد على أن الطاقة النووية حق لإيران ولكنه انتقد الطريقة التي اتبعها أحمدي نجاد في هذا الملف وقال: "إن استخدام لغة قوية واستفزازية يؤدي إلى استفزاز العدو، وإنه يجب اللجوء إلى المفاوضات بدلاً من ذلك". كما انتقد استمرار الناس في إطلاق الهتافات والشعارات بشأن الحقوق النووية، وتساءل: "أليست لنا حقوق أخرى أيضا؟". من المهم أن يستمع النظام الإيراني الحاكم إلى تلك الأصوات وأن "لا تأخذه العزة بالإثم" فيذهب بعيداً في تحديه للمجتمع الدولي دون تقييم للنتائج التي قد تترتب على ذلك ومن المهم عدم تجاهل كل التحذيرات من خطر أي عمل عسكري أميركي ضد إيران لأن هذا العمل إن تم فسيكون خطيراً عليها وعلى المنطقة وهذا ما كشف عنه منذ أيام "وين وايت" الذي كان أحد كبار محللي الشرق الأوسط في مكتب معلومات المخابرات والأبحاث بوزارة الخارجية حتى مارس 2005، فقد أكد أن الخطط الأميركية الطارئة للقيام بعمل عسكري ضد البرنامج النووي الإيراني تتجاوز توجيه ضربات محدودة إلى "حرب كاملة". وقال وايت "إنها ليست مجرد ضربات دقيقة ضد مجموعة من الأهداف داخل إيران، إننا نتحدث عن تمهيد ممر إلى الأهداف، بتدمير كثير من القوة الجوية الإيرانية والغواصات والصواريخ المضادة للسفن والتي يمكن أن تستهدف التجارة أو السفن الأميركية في الخليج وربما حتى قدرات إيران في مجال الصواريخ الذاتية الدفع". وهذا يعني أن كل التصريحات "النارية" و"المرعبة" التي أطلقها ويطلقها وسيطلقها السيد أحمدي نجاد لن تكون لها أية قيمة لو اندلعت الحرب وأنها قد لا تختلف عن تلك التصريحات التي أطلقها صدام حسين طوال فترة تهديد الولايات المتحدة بضرب العراق بل وأثناء دخول القوات الاميركية العراق والتي ظهر أنها تصريحات جوفاء بلا قيمة وأن عاصمة العراق لم تكن بحاجة إلا لبضعة أيام كي تسقط في أيدي بوش و"محافظيه الجدد". أما اتهامات إيران لدول الخليج العربي- سواء بالتصريح أو التلميح- بأنها السبب في توتر المنطقة لاستقبالها القوات والقواعد الأميركية والأجنبية في المنطقة، فمن الأفضل أن تتوقف لأنه لا أساس لها من الصحة، فدول الخليج لم تقم بذلك إلا لأنها مضطرة لحماية شعوبها ومصالحها... فهذه الدول الصغيرة ليست سعيدة بأي وجود أجنبي في المنطقة وهي تدفع ثمن ذلك باهظاً ولكن لا خيار أمامها نتيجة القلق المستمر من "جيرانها الكبار" وهذا ما تعرفه إيران جيداً ولكنها تحب دائماً أن تتجاوز الحقائق إلى الشعارات. كما يجب أن لا تبالغ إيران في العداء لجيرانها العرب وخصوصاً دول الخليج الصغيرة، فالكل يعرف أن هذه الدول ليست لديها أدنى نية عدوانية ضد إيران أو غيرها من الدول، كما أنه ليست لديها أيديولوجية أو ثورة تريد تصديرها... فهي دول تعمل بهدوء في بناء مجتمعاتها واقتصادها وأمنها ولا تبحث عن التوتر... لكن هذا لا يعني أنها عندما تشعر بالخطر ستقف مكتوفة الأيدي ولن تدافع عن نفسها بل ستستخدم جميع الطرق المتاحة لحماية دولها... لذا فمن غير المنطقي أن تستمر إيران في تصوير دول المنطقة وكأنها سبب عدم الاستقرار... فإيران بحجمها ودورها في المنطقة يمكن أن تكون عامل استقرار أو استفزاز فيها... وما تقوم به اليوم لا يمكن إلا تصنيفه ضمن عوامل الاستفزاز سواء للمجتمع الدولي أو لدول المنطقة. أما إذا كانت إيران راغبة في أن تكون عاصمة للاستقرار في المنطقة وإن كانت جادة في تحسين علاقاتها مع جيرانها العرب سواء في الخليج أو العراق أو لبنان أو غيرها من الدول العربية، فإنها مطالبة بأمرين اثنين: أولاً تأكيد حسن نواياها من خلال تعاملها الملتزم مع القضايا العربية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية وعدم الاستمرار في "تصدير الثورة"... والأمر الآخر هو عدم الاستمرار في التعامل باستعلاء وفوقية مع المواقف والتخوفات العربية والتعامل معها بشكل جاد.