إن إحدى أكبر العقبات التي تواجه كلاً من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، اللتين تسعيان لعزل إيران كمركز قوة له أهميته البالغة في منطقة الشرق الأوسط، وبصفتها لاعباً سياسياً رئيسياً في هذه المنطقة، هي أن إيران تشكل هدفاً متحركاً ومتغيراً على الدوام. ففي الأمس القريب، بدت كما لو أنها تسير نحو الديمقراطية، ولا يستبعد أن تسير المسار نفسه في المستقبل القريب، أما اليوم فهي بقبضة رئيسها الحالي محمود أحمدي نجاد. والمشكلة أن الأميركيين طالما ظنوا أن للرؤساء الإيرانيين السلطة ذاتها التي يمنحها الكونجرس للرئيس الأميركي مثلاً. لكن الحقيقة هي خلاف لذلك تماماً. ومع ذلك فقد كان تولي الرئيس الحالي، محمود أحمدي نجاد- عمدة العاصمة طهران سابقاً- لمنصبه الرئاسي إثر انتخابات عام 2005، أداة رافعة كبيرة لموقف من يدفعون في البيت الأبيض الأميركي، صوب ضرورة توجيه ضربة أميركية- إسرائيلية مشتركة إلى طهران. وقبل وصول أحمدي نجاد إلى سدة الحكم في طهران، لم يكن أمام هؤلاء سوى مبرر وحيد يخفون وراءه رغبتهم هذه. ويتلخص هذا المبرر في القول إن إيران تمضي حثيثاً نحو تطوير قدراتها النووية الرادعة لأي ضربة خارجية ربما تتعرض لها، مع العلم أن طهران تخفي طموحاتها العسكرية النووية هذه، خلف برامجها النووية الخاصة بالطاقة المدنية السلمية، والخاضعة لإجراءات التفتيش ولرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. على أن تعاظم القلق الأميركي إزاء سلوك طهران النووي، لم يلق سوى صدى واستجابة محدودي النطاق، من قبل الدول الأوروبية والقوى الرئيسية الآسيوية، في حين واصل محمد البرادعي- مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية- إصراره على ضرورة مواصلة التفاوض مع إيران، لإيجاد تسوية دبلوماسية لموقفها المتعنت والرافض لإجراءات تفتيش الدولي في منشآتها ومرافقها النووية. ثم تلا ذلك انتخاب محمود أحمدي نجاد للمنصب الرئاسي في يونيو 2005، على أساس وعود وشعارات الإصلاح التي رفعها إبان حملته الانتخابية، مصحوبة بوعده بتحسين مستوى معيشة الفقراء والفئات الاجتماعية المستضعفة بصفة خاصة، بكل ما رافق تلك الوعود والأماني من خطابية ألهبت حماس عامة الإيرانيين، وأكسبته شعبية كبيرة خلال عام ونصف العام الأول من رئاسته. لكن سرعان ما تلطخت سمعته وساء صيتها، إثر رحلاته العالمية التي قام بها خلال المدة ذاتها، وكذلك بسبب إنكاره ورفضه لحقيقة حدوث جرائم "الهولوكوست" ضد اليهود. وضمن ذلك الإنكار، طالب نجاد بمعرفة الأسباب- مع افتراض أن الإبادة الجماعية لليهود قد حدثت فعلاً- التي جعلت الشعب الفلسطيني، دون غيره من شعوب الأرض قاطبة، يتحمل وحده وزر هذه الجرائم التي ليس له يد فيها، إذ تم اغتصاب أرضه من قبل الدولة اليهودية. وبين هذا وذاك، أكمل عناد أحمدي نجاد النووي، وخطاب تحديه الصريح للمجتمع الدولي بأسره، فيما يتعلق بتجميد برامجه وأنشطته النووية، ذات الصلة بتخصيب اليورانيوم، أكمل هذا العناد المهمة التي طالما عجز عن تحقيقها مسؤولو واشنطن وتل أبيب. وتتلخص في إقناع أعضاء مجلس الأمن الدولي، بضرورة فرض عقوبات دولية على طهران، ريثما تمتثل لمطالب الشفافية النووية التي يطالبها بها المجتمع الدولي. وقد تقرر اتخاذ ذلك الإجراء فعلياً في شهر ديسمبر من العام الماضي. وكان قد نفد صبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية في العاصمة النمساوية فيينا، بسبب مراوغة ومخاتلة النظام الإيراني، في الوقت الذي كانت تواصل فيه حكومات دول الاتحاد الأوروبي، مساعيها الرامية إلى التفاوض حول عدة إجراءات وتدابير ضد طهران، من شأنها إرضاء المجتمع الدولي وتهدئة غضبه. أما الإنجاز السلبي الثاني لأحمدي نجاد، فيتمثل في تمهيده المناخ والأجواء الملائمة، لخطاب بوش الأخير حول استراتيجيته الجديدة في العراق، وهو الخطاب الذي ألقاه في مطلع شهر يناير الجاري، وشجب فيه ما وصفه بالأنشطة الإيرانية المعادية داخل العراق، وكذلك ما ينسب لطهران من دعم وتمويل وتسليح وتدريب للميليشيات الشيعية، إلى جانب شجبه لرعاية طهران لكل من "حزب الله" في لبنان، وحركة "حماس" في فلسطين. وهناك من فسر خطاب بوش المذكور، على أنه تهديد ضمني باحتمال توجيه ضربة عسكرية لإيران. ومما يعزز هذا التفسير، مسارعة واشنطن بنشر حاملة طائرات ثانية في منطقة الخليج العربي، إضافة إلى نشر نظام دفاعي كامل من صواريخ "باتريوت"، لحماية حلفائها في المنطقة. والسؤال الذي لا بد من إثارته: حمايتهم ضد من أو ماذا؟! سرعان ما جاء الرد على هذا السؤال، من الصحافة الأميركية الحرة وغير الرسمية، كما يلي: من رد عسكري إيراني انتقامي، على ضربة أميركية أو أميركية-إسرائيلية محتملة للمنشآت النووية الإيرانية، مع العلم أنها الضربة التي تكهنت صحيفة "صنداي تايمز" اللندنية العليمة، بأنها ربما تشمل استخدام قنابل اختراق نووية. إلى ذلك أضافت وكالة أنباء صينية، القول إن هذه الضربة يتوقع حدوثها قبل حلول شهر إبريل المقبل، مع العلم أنه الشهر الأخير لبقاء رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في منصبه الحالي. ورغم الإنكار الرسمي لهذه التكهنات، جملة وتفصيلاً، فإن الرأي العام العالمي، بات شبه مقتنع الآن باحتمال تنفيذ ضربة عسكرية كهذه. إلى ذلك تصاعدت موجة الانتقادات الداخلية الموجهة للرئيس محمودي أحمدي نجاد، من قبل خصومه الإصلاحيين ومؤيديه المحافظين على حد سواء، متهمين إياه بأنه ألحق ضرراً كبيراً بالمصالح الوطنية الإيرانية بدلاً من خدمتها، بتحديه السافر لمجلس الأمن الدولي، خاصة فيما يتعلق بالبرنامج النووي. وتكهن هؤلاء بأن يسفر تعنت أحمدي نجاد، عن مزيد من العقوبات ضد إيران، إضافة إلى احتمال توجيه ضربة عسكرية لها. ولم تقف الاتهامات التي كالها هؤلاء لأحمدي نجاد عند ذلك الحد، بل لحقتها اتهامات أخرى بسوء إدارته للميزانية الوطنية، وبتبنيه لخطط إنفاق غير واقعية، في وقت سجلت فيه عائدات النفط واحتياطيات الميزانية الإيرانية، انخفاضاً ملحوظاً. يذكر أن بين هؤلاء المنتقدين، الرئيس الإيراني الأسبق، أكبر هاشمي رفسنجاني الذي نظر إليه في الغرب يوماً، على أنه نجم الليبرالية الساطع في سماء إيران. وبين هذا وذاك، تراجعت شعبية محمود أحمدي نجاد. وفي هذا يقول مراقبون غربيون، إن استطلاعات الرأي العام التي أجرتها الحكومة الإيرانية نفسها العام الماضي، أظهرت رغبة 70% على الأقل، بين من استطلعت آراؤهم، في إحداث تغيير سياسي في بلادهم. كما أشارت نسبة مماثلة إلى تطلعها نحو مزيد من الحرية والديمقراطية. وفي واقع الأمر، وبسبب المد الديمقراطي العالمي الحاصل اليوم، فإنه يمكن وصف إيران نفسها بأنها دولة ديمقراطية على نحو ما. ولك أن تسمي نموذجها هذا بـ"الديمقراطية الثيوقراطية" طالما أن المصادقة النهائية على نتائج الانتخابات العامة، لا تزال من شأن مجلس مؤلف من القادة الدينيين. إلى ذلك فقد قطعت فيها الحريات الشخصية والاجتماعية، شوطاً أبعد مما هو عليه الحال في دول إقليمية أخرى شبيهة. يبقى إذن أن مشكلات إيران الرئيسية تتمثل في سعيها لتطوير رادع نووي لأي ضربة خارجية توجه إليها، مضافاً إليها مواقف رئيسها أحمدي نجاد، إزاء إسرائيل. وإذا كانت طهران، تأمل في اقتراب بزوغ شمس "عصر ذهبي" جديد لها، مسبوقاً باندلاع حرب كبرى عليها، فإن هناك بين صقور واشنطن من يشاطر قادة طهران، الحلم ذاته!