فارق كبير بين المدارس في جيلنا وجيل آبائنا وفي الأجيال الحالية. وأحد أسباب هذا الفارق الكبير أننا كنا نستمتع بالانتماء للحركة الكشفية. وفي مصر أمدت الحركة الكشفية كل مجالات الحياة في مصر بعناصر بشرية راقية للغاية. وكان من أنشط المشاركين في الحياة الحزبية في أربعينيات القرن الماضي كوادر كونت وعيها في الحركة الكشفية بالمدارس. كما تكونت جمعية الرواد وغيرها من الجمعيات الخيرية والإنسانية التي ساهمت في وضع السياسة الاجتماعية التقدمية في الخمسينيات من عناصر وقيادات كشفية. الآن كادت الحركة الكشفية تختفي من المدارس ومن الحياة الاجتماعية عامة. وانتهت تلك المرحلة من تاريخ التعليم في مصر والعالم العربي عندما كان الأولاد ينشطون في فرق الكشافة وعندما كان المدرسون يجتهدون لتدريس كيفية استحلاب المعرفة الجغرافية عبر القيام برحلات كشفية في أوطانهم. والأهم أن فعل الاستكشاف كاد يختفي بدوره حتى بين أعظم المستكشفين على الإطلاق وهم القبائل والعشائر البدوية. ولو استمر هذا الوضع فإن الثقافة العربية ستكون قد خسرت تراثاً عظيماً لم يوثق بكامله. إذ اهتمت الآداب العربية بتسجيل انطباعات مبهرة عن الكشافة البحرية في قصص سندباد وألف ليلة وليلة وغيرها. أما عمليات الاستكشاف الجغرافي الأرضي والتي نجمت عن تحركات القبائل الرحل والغزوات العسكرية وتجارة القوافل البرية... فلم تسجل إلا لِماماً. ولم تقم وسائل الإعلام العربية بدور في توثيق وتشجيع ثقافة الاكتشاف والاستكشاف. فهي تكتفي بتشجيع ثقافة العري في الفيديو كليب وليس ثقافة المعرفة. وبالمقارنة, نقف كالجمهور المسحور أمام قنوات تلفزيونية عظيمة مثل "ديسكوفري" المتخصصة في الكشف عن روعة الطبيعة والكون. تسحرنا بالطبع الجماليات البصرية التي وصلت إلى مستوى مدهش من الفتنة. وتسحرنا أكثر تجارب هؤلاء الناس الذين يذهبون إلى أقاصي الكون بحثاً عن كنوز الطبيعة وإعجاز الله في خلقه، ويخاطرون بحياتهم ورفاهيتهم اليومية من أجل البحث والاستكشاف بذاته وبما يمنحه للبشر من متعة المعرفة ورفقة الحياة مع العناصر والحيوانات والجبال والميحطات قاعاً وسطحاً وخلائق. ولكن عمق ثقافة الكشوف الجغرافية والكونية هي تعبير نوعي عن ثقافة القلق والاكتشاف المعرفي التي ازدهرت في العالم الغربي وانكمشت عندنا. وينعكس هذا الانكماش في جميع أوجه حياتنا بما في ذلك الحياة السياسية. ويتولد عن هذا الفارق التقدم في الغرب واستمرار التخلف عندنا. فالتقدم هو وليد الاستكشاف والاكتشاف. والإمكانيات هي نبت الجهد العقلي والرغبة في المخاطرة المعرفية بما تعنيه في كل مجال، من رحيل في جغرافيا الكون وفي تضاريس المجهولات دون توقع حتى الوصول إلى مرفأ ما. فهذه هي السفرة الوحيدة التي يتمتع فيها الناس بذاتها مجاهدين في الإجابة عن أسئلة سكنت أذهانهم وظلت تطاردهم فتدفعهم للسفر. أنت لا تصل إلى مكان ما وتتوقف عنده قائلاً: لقد وصلت. هذا هو ما يفعله الذين يتعاملون مع المعرفة والمعارف بطريقة ذرائعية بحتة أو يريدون الوصول عبرها إلى شهادة أو وظيفة أو مجرد الخلاص من الامتحانات في المدارس والكليات. وهذه بالضبط هي الذهنية التي أزهقت فينا روح البحث والمعرفة والاستكشاف. وإذا كنت أيها القارئ العزيز تعتقد أن التقدم هو الذي يتيح الاستكشاف فأنت لم تقرأ ألف ليلة وليلة ولا رحلات سندباد ولم تثبت في عقلك التجربة الرائعة التي قام بها بحارة مصريون وعرب عظام قاموا بكشوفهم الجغرافية العجيبة قبل أن يقوم بها الغرب بمئات وعشرات السنين. ولم يكن ابن بطوطة غنياً وإنما كان مدفوعاً بهذا الهاتف الداخلي الطاغي للاستكشاف والمعرفة. بل وربما لم تثبت في ذهنك حقيقة أن الناس انتشروا في الأرض أصلاً بفضل كشوفهم الجغرافية. يعنى ذلك أن العكس تماماً هو الصحيح: أي أن التقدم هو وليد الاستكشاف. إذا كنت تريد معرفة لماذا لا يقوم الناس في بلادنا العربية بهذه المغامرة المعرفية وبهذا الاستكشاف الجغرافي، فالإجابة هي أن ما لدينا صار ثقافة قعود لا سفر، وأن هذا الدافع الغامض الجميل للكشف والمخاطرة قد ذبل وسقطت الزهرة المقدسة من الرأس. ولا يهم في النظام المدرسي أن تتعلم أي شيء حقاً. ما يهم هو حشر المعلومات أو دق إجابات نمطية في الرؤوس مثلما تفعل أجهزة حقن الاسمنت في الأرض. كل ما هناك أنها تظل قواعد إسمنتية ساكنة ببرودة وبرود في الرأس ولا ينبني عليها شيء ولا يسكن فيها شيء. ولذلك من المنطقي أن نترك حتى جيناتنا الوراثية للأجانب من أجل تصنيف واستكشاف صفاتنا العضوية. وعندما يتممون هذا العمل سيعجبون أشد العجب عندما يعرفون أن أجدادنا هم الأصل في الكشوف الجغرافية وفي استكشاف الكون وما يزخر به من كنوز وأعاجيب. ولا يعبر هذا الفارق عن نفسه في الفرز بين التقدم والتخلف كظاهرة كلية عامة فحسب، بل يعبر عن نفسه أيضاً في الفرز إلى نظم ديموقراطية ونظم استبدادية. فثقافة القلق المعرفي وانعكاسها في النشاط الكشفي تشكل أحد أهم دوافع التطور الديموقراطي في العالم الغربي. أما انكماش هذه الثقافة فتشكل أحد أسباب استمرار الحكم المطلق. فالحكم المطلق يقوم ثقافياً على رفض الشك فيما تملكه الثقافة السائدة من إجابات جاهزة والاستكفاء أو الانكفاء على ما قدمه لنا الأقدمون من معارف وأحكام. والأيديولوجيا السائدة قد تختلف بين مجتمع وآخر ولكنها تجتمع على ابتسار هذه المعارف وتسطيح هذه الأحكام. وعادة ما يتم التعريض بالمثقفين الذين يتساءلون بتسميتهم "المشككين"، وهو ما يعنى التعريض بالشك نفسه كأحد أهم دوافع البحث والتجديد المعرفي. ودرجت الحكومات العربية على إنتاج خطاب يثبت ما حققته من إنجازات مقارنة بالماضي وليس مقارنة بالآخرين. ولا يسمح بالتساؤل عن أسباب اتساع الفارق بين مستويات التطور البطيء عندنا والتقدم السريع عند معظم المجتمعات والشعوب الأخرى. وينعكس ذلك كله في رفض مراجعة أية إجابة من الإجابات التي تفرزها السياسات التي أوصلت المجتمعات العربية لركود طويل ودفعت شعوبنا لحافة اليأس. فمشكلاتنا وصراعاتنا تبقى معنا جيلاً بعد جيل وزمنا بعد زمن حتى ننساها أو ننشغل بمشكلات أخرى دون أن نحلها أو نواجه تبعاتها بما تتطلبه من شجاعة المراجعة وتوسيع أفق الاختيارات والبدائل وتطبيقها فعلاً بما تتطلبه من تضحيات. فالمشكلة الفلسطينية عاشت معنا أكثر من خمسة عقود, ومشكلات الأمن في الخليج استمرت تنتج حرباً بعد حرب دون نهاية منذ الاستقلال, ومشكلات بناء الدولة في السودان ولبنان... بل وفي معظم البلاد العربية الأخرى تتفاقم وتشكل أرضية خصبة للصراعات الطائفية والعرقية والثقافية. وسوف يجتمع القادة والزعماء العرب في قمة بعد قمة دون أن يصلوا إلى حلول مقنعة وجذرية فتتكون جبال من القرارات التي لا تنفذ أو التي لا تنقذ الأمة من ركودها وانقساماتها. هل نحل مشكلاتنا السياسية بإحياء الحركة الكشفية؟ ليس في هذا السؤال أية مبالغة. بل ليست هناك أية مبالغة إن أجبنا عليه بالإيجاب، وذلك فهمنا للحركة الكشفية لا باعتبارها نشاطا محدداً بل باعتبارها ذهنية أو طريقة في الحياة. فهي الطريقة الوحيدة لتحقيق التراكم المعرفي والخبراتي. وهى أيضاً الطريقة الوحيدة للقبول بالمخاطرات الضرورية للوصول إلى هدف ما. بل هي الطريقة الوحيدة للسباحة في الكون من أجل صيد لؤلؤ المعرفة بل ولصيد المتعة الحقيقية في تجربة الحياة.