يلاحظ الباحث المدقق أنه كلما تعقدت مسألة التغيير والإصلاح الديمقراطي في العالم العربي، وأصبحت بعيدة ومسكوتاً عنها بوضوج وجرأة من قِبل هذا البلد أو ذاك، تنبعث لدى فئات وشرائح وطبقات آخذة في الاتساع أفكارٌ "حارّة" لمعالجة هذه المسألة وتدبُّرها. وقبل الإفصاح عن خصوصية هذه الأفكار، يجدر بنا أن نشير إلى ما يجمع بين الفئات والشرائح والطبقات المذكورة، لأن من شأن ذلك أن يفتح مدخلاً أو مداخل إلى الخصوصية المعْنية. ها هنا نضع أيدينا على ثلاثة مشتركات بين أولئك، هي -أولاً- إفقارهم بكيفية منهجية مطّردة، بحيث إنهم -مع اختلافات نسبية بين فريق أو آخر منهم- أصبحوا عراة إلا من موت محقق أو محتمل. لقد استفرد النظام الأمني العربي -في معظم تجلياته- بالثروة الوطنية والقومية. أما المشترك الثاني الذي يجمع بين الفئات والشرائح والطبقات المأْتي على ذكرها، فيُفصح عن نفسه في اغتيال حرياتهم من قِبل سدَنَة النظام الأمني العربي. والطريف في ذلك أن عملية الاغتيال هذه جرى تكريسها باسم مبادئ عزيزة على أكثرية المواطنين ضمن الشعوب العربية، وهي مبادئ الحرية والتقدم والعدالة، يداً بيد مع مبدأ الكرامة. وإنه لملفتٌ حقاً أن يتحدث أولئك السَّدنة عن هذه المبادئ حتى الآن، أي حتى المرحلة التي غدت فيها استباحة هذه المبادئ بأيدي المذكورين، أمراً مكشوفاً ووقحاً ومخالفاً للأدنى من حقوق الإنسان. فلقد أُنتجت دساتير ومبادئ تنظم عملية الاستباحة المذكورة، بدءاً بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية وانتهاءً بقوانين وإجراءات تدمّر إنسانية الإنسان، من نمط قوانين الإعلام، والاستفتاء الرئاسي، والانتخابات البرلمانية، وحصر الترشيح ها هنا بفئة تتلفع غالباً بحزب أو طائفة. وثمة بلدان عربية تعيش مثل هذا الحال عقوداً من الزمن، وهي تدافع الآن عنها باسم الحفاظ على "الوحدة الوطنية" و"التقدم الحضاري" و"ضرورات المرحلة الراهنة المعقدة". ولقد اتضح أن استمرار تلك الحال، في معظم الأقطار العربية، أفضى إلى نتيجتين اثنتين واضحتي الدلالة. تتمثل الأولى في تعاظم قوة "الأعداء التاريخيين"، الذين جاءت تلك القوانين الطوارئية والأحكام العرفية، كما يزعمون، لمواجهتهم ضمن خط سُمّي نفاقاً بـ"التوازن الاستراتيجي" بين الأقطار المذكورة وبين أولئك الأعداء إياهم. أما الدلالة الثانية فقد تبلورت بتدمير الداخل العربي وجعله يتفكك شذَر مذَر، عبر تحويل شعوبه إلى "رهائن" في أيدي النظم الأمنية الحاكمة. ومن ثم، أخذ الموقف يُفصح عن نفسه -خصوصاً بعد سقوط العراق- في المعادلة التالية: تزداد شعارات التقدم والحرية والسيادة والعدالة، كلما ازداد النظام الأمني قهراً لشعوبه العربية وإقصاءً عن تيار العصر المتدفق، الذي تعيشه من بعيد. ويظهر المشترك الثالث، الذي يجمع بين الفئات والشرائح والطبقات المفقرة الفقيرة والمُلاحقة في ثروتها وحرياتها عبْر انتزاع كرامتها. وبحق، يظهر هذا الأمر بصيغ رهيبة. أما القاعدة المؤسِّسة لذلك فتتمثل في خطوتين اثنتين، تقوم أولاهما على الإمعان في إفقار الفئات الوسطى وإذلالها مادياً، وفي تدمير القاع الاجتماعي وتحويله إلى جيوش من البؤساء والباحثين عن حاجاتهم الدنيا. أما الخطوة الثانية فتتجسد في نشر قيم المجتمع الاستهلاكي وتعميمها، بتصميم، خصوصاً في أوساط تلك الفئات الوسطى وذاك القاع الاجتماعي. وفي هذا وذاك تشديد على اللهاث وراء "الاستهلاك". وهنا، يكون المشترك الرابع بين الفئات والشرائح والطبقات المفقرة الفقيرة قد أفصح عن نفسه، متمثلاً في استباحة الكرامة بكيفية منسقة واستراتيجية. في إطار تلك الوضعية يتهشم المجتمع المعني، وينشق منه وعنه أفراد يحملون قيماً يصممون على الدفاع عنها. ولما كان المجتمع قد أخذ -في إجماله- في التساقط سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً وفكرياً، فإن أولئك الأفراد، المنحدرين من مرجعيات دينية أو سياسية أو غيرها، يشعرون بأن "رسالتهم الكبرى" قد تحددت، يداً بيد مع تحديد "الرجال المسؤولين" عن انهيار المجتمع وانحطاطه، أي الرجال الذين يصبحون هدف المواجهة. يتم ذلك اعتقاداً بأن مواجهة هؤلاء إنما هي وسيلة لدحر الاستغلال.