تبدو السياسات العربية بصفة عامة، منطويةً على مفارقة هائلة؛ فالأطراف العالمية والإقليمية -التي أفضت سياساتها إلى مخاطر وتهديدات هائلة للوطن العربي وتداعيات مأساوية فيه- تتآكل سياساتها باطراد وتتدهور مكانة قواها الحاكمة على نحو لا يقبل أدنى شك. ومع ذلك فإن ردود فعل السياسات العربية لهذه الظاهرة التي لا تخطئها العين، تبدو مثابرة على نهج يفترض أنه أصبح بلا أساس، مستمرة في تبني مواقف تكشف كافة المؤشرات عن أنها لا تعدو أن تكون رهانات خاسرة من الألف إلى الياء. لنستعرض أولاً ما يجري في الساحة السياسية لقوتين دوليتين، إحداهما قوة عالمية عظمى تمسك بيد مرتعشة بزمام القيادة في النظام العالمي وهي الولايات المتحدة الأميركية، والثانية قوة إقليمية لا يمكن التقليل من شأنها وإن كانت التطورات قد أظهرت وزنها الحقيقي وهي إسرائيل. وفيما يخص الأولى، تبدو الإدارة الأميركية غارقة في المستنقع العراقي، باحثة عن أي مخرج "كريم" منه، لكنها مع ذلك، ورغم كل ما تزخر به الساحة الأميركية من مراكز بحثية رصينة وقوى سياسية فاعلة وإعلام حُر، تمخضت فولدت فأراً هو خطة بوش الجديدة للعراق، وهي الخطة التي تناولها المقال السابق في هذه الصفحة، ولذلك يكفي بشأنها الآن أن نذكر أن عضواً "جمهورياً" بارزاً في مجلس الشيوخ، وصفها بأنها أسوأ خطأ في السياسة الخارجية الأميركية منذ حرب فيتنام، وهو حكم يتسق مع نتائج استطلاعات الرأي التي أجريت أخيراً في الولايات المتحدة الأميركية والتي أظهرت أن 80% من الشعب الأميركي لا يوافق على السياسة الأميركية في العراق ويعتبر الرئيس الأميركي هو الأسوأ في تاريخ الولايات المتحدة. والأهم من ذلك أن كافة التحليلات تشير إلى أن فشل هذه الخطة سيخرج "الجمهوريين" من البيت الأبيض في انتخابات عام 2008 الرئاسية، كما حرمهم إخفاق السياسة الأميركية في العراق من الاحتفاظ بالأغلبية في الكونجرس خلال انتخابات تجديده النصفي الأخيرة. على الصعيد الإسرائيلي كان الفشل في تحقيق الدولة العبرية لأهدافها في الحرب على لبنان صيف العام الماضي، فشلاً كاملاً؛ فلا الهدف التكتيكي (تحرير جنديين أسرهما حزب الله) تحقَّق، ولا الهدف الاستراتيجي (إخراج حزب الله من المعادلة العسكرية -إن لم تكن السياسية أيضاً- في لبنان والمنطقة) تم إنجازه أيضاً. ومع ذلك ظل الجدل السخيف في أوساط عربية، أدمنت ثقافة الخنوع، دائراً بأقصى سطحية ممكنة حول معنى الفوز والهزيمة، ومنتهياً إلى رفض الاعتراف بهزيمة إسرائيل وانتصار "حزب الله" رفضاً لمنطق المقاومة ذاتها. والغريب أن هذا حدث في الوقت الذي كان المجتمع الإسرائيلي نفسه ينشغل بالبحث في أسباب الإخفاق أو التقصير، أي أن الهزيمة بدت مُسلَّماً بها لدى الإسرائيليين، فيما كنا نحن منهمكين في الحديث عن ضرورة محاسبة المقاومة! وتواصل هذا المعنى عبر كثير من المؤشرات، كان أهمها في الآونة الأخيرة تقرير "الميزان الاستراتيجي في الشرق الأوسط" (2005-2006) الصادر عن "جامعة تل أبيب"، والذي اعترف بأن الحرب أصابت بالضرر البالغ قوة الردع الإسرائيلية وكشفت عن أوجه الضعف في قوات الدفاع وفي عملية صنع القرار السياسي. ثم جاءت استقالة "دان حالوتس"، رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية، في واقعة غير مسبوقة بنيت على اعترافه بالمسؤولية عما جرى في الحرب على لبنان من تقصير لتكون بمثابة الزلزال السياسي في إسرائيل، وكان هناك ما يشبه الإجماع على أن استقالة "حالوتس" ستكون بمثابة حجر الدومينو الذي يؤدي إلى سقوط باقي الأحجار وأولها عمير بيريتس (وزير الدفاع) يليه إيهود أولمرت (رئيس الوزراء)، وهو أمر يبدو منطقياً، بسبب تدني شعبية "بيريتس" حيث أظهر استطلاع أخير للرأي في إسرائيل نشرت الإذاعة الإسرائيلية نتائجه أن 70.9% يؤيدون استقالته، ناهيك عن أنه يواجه تحديات حقيقية لاستمراره في زعامة "حزب العمل". أما أولمرت فقد أظهر الاستطلاع نفسه أن 50.2% يؤيدون استقالته، بالإضافة إلى ما يواجهه من فضائح مالية بسبب دور منسوب له في خصخصة ثاني أكبر مصرف إسرائيلي، وتراجع شعبية حزبه نتيجة لهذا كله. وربما الأهم من هذا هو حديث وسائل الإعلام الإسرائيلية عن بلبلة في أوساط الإسرائيليين -رغم ارتياحهم للاستقالة- وشعورهم بالإحباط بل وشعور بعضهم بأن كل شيء ينهار في هذه الدولة، نتيجة لاستشراء الفساد وتداعيات فشل الحرب على لبنان، وغياب قيادة يمكن الاعتماد عليها، طالما أن أولمرت وبيريتس -وفقاً لصحيفة "معاريف"- ليسا سوى بطتين عرجاوين تعرفان أنهما في طريقهما إلى المسلخ. وبدلاً من أن تعكف السياسات العربية على دراسة هذا الواقع الجديد والاستفادة من الفرص التي يتيحها من أجل حركة أكثر تأثيراً باتجاه تطويق المخاطر والتهديدات التي تحيط بنا جميعاً، وبدلاً من دراسة البدائل وفتح خطوط اتصال مع القوى السياسية الفاعلة لدى الخصوم، والتي من شأنها أن تحدد المسار السياسي لهؤلاء الخصوم في غضون مدة زمنية قصيرة، إذا بهذه السياسات تمعن في التكيف مع السياسات الأميركية في العراق، بل يعلن بعضها تفهمه لخطة بوش الجديدة واقتناعه بها وتمنياته لها بالنجاح الذي لا يراه أحد آخر خارج الدائرة العربية ممكناً. وتبقى هذه السياسات على إيمانها بجدوى التسوية مع إسرائيل في ظل المعادلة الراهنة، مع أن خطى التسوية قد تباطأت عبر أربعين سنة هي عمر هزيمة يونيو 1967، بما يشير إلى وجود خلل بنيوي في تلك المعادلة لابد من إصلاحه، وإلى أن هذا الإصلاح لا يمكن أن يتم عبر الاستجابة لرغبة أي مسؤول إسرائيلي في الالتقاء بالمسؤولين العرب وتبادل الابتسامات معه والشد على يديه بحرارة ونعته بالأوصاف الطيبة، حتى ولو كان هذا المسؤول الإسرائيلي على شاكلة أولمرت المخضبة يداه بدماء الشهداء الفلسطينيين واللبنانيين، ناهيك عن أنه يعتبر في حكم الميت سياسياً. هكذا تضع سياسات عربية نفسها في موضع تبدو فيه مفيدة في تدعيم المكانة السياسية لمسؤولين إسرائيليين لا أمل في بقائهم، ناهيك عما تسببه التصرفات الطائشة لهؤلاء المسؤولين من إحراج لنظرائهم العرب عندما يقدمون على بعض أعمالهم الحمقاء في الساحة الفلسطينية دون مراعاة لأدنى اعتبارات اللياقة أو حتى ملاءمة التوقيت، بل إن بعض المسؤولين الفلسطينيين قد تصرف على نحو لا يمكن أن يفهم منه سوى أنه يضع يده في يد إسرائيل والإدارة الأميركية في مواجهة خصومه الداخليين. يحدث هذا كله في الوقت الذي يقرر فيه كاتب بريطاني مخضرم مثل "باتريك سيل" بكل خبرته في شؤون الشرق الأوسط -تعليقاً على ما يبدو مظهر صحوة في عملية السلام- أن الحقيقة المرة "هي كون الولايات المتحدة -الدولة الوحيدة القادرة على التأثير على إسرائيل- منهمكة في حربها في العراق، وبالخطر الذي تمثله إيران الصاعدة. إن الولايات المتحدة رغم مساعي كوندوليزا رايس المتواضعة والجديرة بالثناء، ليس لديها لا الوقت ولا الرغبة في تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي... ومن جهة أخرى فإن الحكومة الإسرائيلية التي يتدهور الالتفاف الشعبي حولها، في استطلاعات الرأي العام، لا يبدو أنها راغبة ولا قادرة على أن تتخذ قرارات تاريخية". هكذا يشهد شاهد، يعد بأحد المعايير "من أهلها"، على كل ما يجري وآفاقه المحتملة... فلماذا تثابر السياسات العربية على التشبث بالسفن الغارقة والرهان على الجياد الخاسرة ومحاكاة البط الأعرج في مشيته؟!