أن تكون ترجمة أعمال ابن رشد إلى اللاتينية والعبرية، بعد نحو نصف قرن فقط من ترجمة معاني القرآن الكريم، هي الأساس الذي قام عليه في أوروبا، ذلك التيار الفكري الذي عرف بـ"الرشدية" اللاتينية والذي كان له الدور الكبير في تأسيس العقلانية الأوروبية... فهذا ما لم يعد في حاجة إلى إثبات أو توضيح. إن الذي يستحق لفت النظر هنا، في السياق الذي نتحرك فيه، هو ما تعرض له أتباع هذه "الرشدية" وبالتالي "المثقفون الحداثيون" في أوروبا النهضة من اضطهاد على أيدي الكنيسة وأجهزتها بسبب انتمائهم الرشدي. لقد سجل المثقفون الجدد, الحداثيون في القرن الثاني عشر الميلادي, شكاواهم من الاختناق الذي كان يسود البلاد المسيحية بسبب اضطهاد رجال الكنيسة للمفكرين الأحرار مما جعلهم يفكرون في الرحيل إلى أرض العرب, حيث الحرية الفكرية مكفولة. يقول "بيير أبيلار" (مولود عام 1079) -والذي يصفه المؤرخ الفرنسي "جاك لوكوف" بأنه أكبر مثقف حداثي من بين حداثيي القرن الثاني عشر- معبراً عما كان يعانيه هؤلاء المثقفون في أوروبا من اضطهاد ومضايقات، يقول: "الله يعلم كم مرة فكرت, تحت ضغط يأس عميق, في الرحيل عن الأرض المسيحية والعبور نحو الوثنيين (=المسلمين-كذا) للعيش هناك في سلام, دافعاً الجزية لأعيش مسيحياً بين أعداء المسيح"! ولم يكن اضطهاد السلطات الكنسية لهؤلاء المثقفين الحداثيين لينال من رغبتهم في الانتماء المعرفي للعرب. فقد كان الجيل الجديد لا يثق إلا فيما يأتي من العرب أو ينسب إليهم. ويبرز "آلان دي ليبيرا" الذي صدر له في العقد الماضي كتاب بعنوان "التفكير في العصر الوسيط", أهمية دور "التراث المنسي" في الغرب -يقصد التراث العربي المترجم إلى اللاتينية- في ظهور فئة "المثقفين" في أوروبا العصر الوسيط. وإذا كان "دي ليبيرا" يحذو حذو "لوكوف"، فإنه يكمله ويحاول تجاوزه بإلقاء الضوء على دور "الفلاسفة" الذين تمكنوا من اختراق أسوار الجامعات والتحول إلى مثقفين "يخاطبون الجمهور" ويتكلمون في قضايا سياسية بخطاب فلسفي مستعار من العرب ومن ابن رشد خاصة. إنها "الرشدية اللاتينية" التي يبرزها "دي ليبيرا" كخطاب لـ"المثقفين الجدد" الذين هيمنوا على الحياة الثقافية في أوروبا خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر. ويبرز "دي ليبيرا" الأصل العربي لهذا الخطاب فيقول: "إن هذا الخطاب الفلسفي/ الكلامي لم يولد من تلقاء نفسه, بل تعلمه أصحابه واستوعبوه, انطلاقاً من مصادر محددة معروفة هي ذلك التصور للحياة الفلسفية الذي صاغه فلاسفة بلاد الإسلام, الورثة الأوائل للفلسفة اليونانية في القرون الوسطى. إن اقتباس المثل الأعلى الفلسفي العربي مع مقدماته الكوسمولوجية والفلكية والسيكولوجية والأخلاقية، قد ساعد على نشر الفلسفة خارج الجامعة (والتي كانت تحت هيمنة رجال الدين). لقد تمكن النموذج العربي الإسلامي لـ"الفيلسوف" من أن يفرض نفسه على قسم من المجتمع المسيحي بواسطة فلاسفة جامعيين, لأنه نموذج تشكل في عالم بدون جامعات كنيسية رسمية، ولأنه أيضاً نموذج يجعل الدراسة تتوج بالحكمة ويَعِدُ بالاستمتاع بتجربة ثقافية خالصة (=بلذة عقلية), عند آخر مراحل اكتساب المعرفة". ولما كان المجال لا يتسع لتفصيل القول أكثر في دور العلم العربي في نشأة الحداثة الأوروبية، فسنقتصر على الإشارة إلى الطريقة التي وظف بها أولئك "المثقفون الجدد" نظرية ابن رشد في الفصل بين الدين والفلسفة. لقد عمد ابن رشد -بعد المشاكل التي أثارتها محاولة الفارابي وابن سينا لدمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين, وهي المحاولة التي بدت للغزالي متهافتة فتصدى لنقضها وبيان بطلان نتائجها- عمد ابن رشد إذن إلى تصحيح الوضع فبيَّن كيف أن الدين بناء مستقل بنفسه له أصوله الخاصة, وأن الفلسفة كذلك بناء مستقل بنفسه، لها هي الأخرى مقدماتها الخاصة, وأن التقاء البناءين وتآخيهما وتكاملهما أمور يجب أن تلتمس, لا في الأصول ولا في البناءين, بل في الغاية والهدف, من حيث أن كلاً منهما إنما يرمي في نهاية المطاف إلى تحقيق الفضيلة. هذا النوع من الفصل بين الدين والفلسفة، تلقفه "الرشديون اللاتينيون" وقرؤوه على ضوء صراعهم مع الكنيسة فقالوا بـ"نظرية الحقيقتين" ونسبوها إلى ابن رشد: الحقيقة الدينية والحقيقة العقلية, وأنه يجب الأخذ بهما معاً حتى ولو تعارضتا, وفي هذه الحالة يجب القول: هذه هي النتائج التي يقودني إليها عقلي باعتباري فيلسوفاً, ولكن بما أن الله لا يمكن أن يكذب, فإني أسلم بالحقيقة التي كشفها لنا بالوحي وأتمسك بها بواسطة الإيمان". وواضح أن هذا النوع من التوظيف لنظرية ابن رشد في علاقة الدين بالفلسفة -وهو ما لم يكن ليخطر بباله ولا ليوافق عليه- كان الهدف منه إثبات سلطة للعقل مستقلة عن سلطة الكنيسة ونِدّاً لها, الشيء الذي يعني إعطاء الفلاسفة نفس الشرعية التي لرجال الدين. وهكذا يتحول الفصل الرشدي, العربي الإسلامي, بين الدين والفلسفة إلى فصل "رشدي لاتيني" بين الكنيسة والفلسفة, الشيء الذي مهد الطريق إلى المناداة بالفصل بين الكنيسة والدولة، أي إلى اللائكية. ومن هنا نفهم هجوم اللاهوتيين المسيحيين على ابن رشد، لقد رأوا في كتبه، بما في ذلك تفاسيره على أرسطو، أنه يهاجم عن قصد وبحدة مسائل الدين، هذا في حين أنه إنما كان يرد على الفلاسفة والمتكلمين الإسلاميين الذين وظفوا أرسطو في تأييد الفرقة الدينية التي ينتمون إليها (الأشعرية بصفة خاصة). والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: هل تأثر "مارتن لوثر" (1483-1546) زعيم حركة الإصلاح الديني في أوروبا بهذا "التراث المنسي"، والقرآن منه بصفة خاصة، وقد كانت ترجماته شائعة رائجة في عصره؟ أما أن يكون لوثر على علم بموقف القرآن وموقف فلاسفة الإسلام من الإنسان فهذا ما يصعب الشك فيه. إذ ليس من المعقول أن يكون "لوثر" في منأى عن تأثير الموروث العربي، الديني والفلسفي، الذي كان قد مضى على انتشاره في الأوساط المثقفة في أوروبا ما يزيد عن ثلاثة قرون. ومع أننا نفتقد إلى شهادة تاريخية تثبت ذلك، فإن مضمون إصلاحه الديني الذي يبتعد فيه عن فكر الكنيسة يلتقي في جوانب كثيرة مع المنظور الإسلامي كما ينص عليه القرآن. لقد ركز لوثر دعوته الإصلاحية ضد سلطة الكنيسة وصكوك الغفران فنادى بأنه "يجب السماح للقساوسة بالزواج، وبأن الطلاق أمر شرعي"... إلخ. وهذه أمور من صميم شريعة الإسلام. إن تيار الإصلاح الديني الذي قاده لوثر، وإن لم ينتسب رسمياً إلى القرآن والترجمات التي وضعت لمعانيه، فإنه لابد أن يكون قد استوحى، بصورة أو أخرى، ما تميزت به العقيدة الإسلامية من إسقاط للخطيئة الأصلية بتوبة آدم، وبنفي كل وساطة بين الله والإنسان، وتأكيده أن "الإيمان" هو وحده الرابطة التي تربط بين الله والمؤمنين، وأنه لا كهنوت في الإسلام... الخ، وهذه هي الأعمدة الأساسية التي قام عليها الإصلاح الديني الذي تزعمه لوثر موجهاً سهامه إلى الكنيسة كنظام كهنوتي اجتماعي متسلط. ومهما يكن، فإننا نرى أن من بين الموضوعات التي يجب أن تكون حقلاً للتفكير في الحوار بين الديانات، مسألة الاتصال والانفصال بين المسيحية، بمختلف فرقها، وبين الإسلام بمختلف مذاهبه. إن المطلوب ليس التفكير المجرد الذي توجهه العقيدة والمذهبية، بل المطلوب هو الكشف عن أنواع التلاقي وعدم التلاقي التي عرفها تاريخ العلاقات بين الديانات الإبراهيمية الثلاث. إن إعادة كتابة تاريخ هذه العلاقات عملية ضرورية لإيجاد السبل لتحقيق المؤاخاة الحقيقية بينها. ذلك أن تاريخ هذه العلاقات كما تعرضه الكتب الدعوية (التبشيرية) الرائجة، الإسلامية منها والمسيحية واليهودية، تاريخ صراع، تهيمن عليه فكرة "الفرقة الناجية" التي وحدها تدخل الجنة، بينما باقي الفرق كافرة مصيرها جهنم! ونحن عندما ندعو إلى إعادة كتابة تاريخ العلاقة بين الديانات الثلاث، لا يقودنا مجرد افتراض أن يتم الكشف عما يثبت تَأثرَ "لوثر" بالقرآن، وإن كان الافتراض في حد ذاته من الأبواب المؤدية إلى الحقيقة التاريخية، بل نرى، فضلاً عن ذلك، أن هناك مجالاً أوسع يرقى إلى مستوى إبراز الوحدة المتحققة في الجذور. هذه الوحدة التي يجب أن تكون الهدف المؤطر لكل حوار حقيقي بين الديانات السماوية الثلاث.