كان هناك 15 رجلاً وامرأة واحدة، يجلسون على أرضية الحجرة المضاءة بأشعة الشمس، كانت درجة الحرارة مرتفعة داخل الحجرة وكان الجالسون فيها يتصببون عرقاً. كان هؤلاء الجالسون من عشيرة "العيَر" الذين كان كبراؤهم قد استدعوهم لاجتماع سياسي. وخلال الاجتماع سرعان ما تبين لي أن مواقف أفراد العشيرة تجاه الحكومة الصومالية المؤقتة تتسم بالمرارة، وكان هذا شعورهم جميعاً. وقد قال لي أحد كبراء هذه العشيرة: " إن الحكومة المؤقتة ضعيفة، ونحن لا نستطيع مساندتها". والصومال الذي يمثل نموذجاً لكل الأمراض الاجتماعية والسياسية التي تعاني منها الدول الأفريقية، اضطر للانتظار 16 عاماً حتى تكون لديه مثل هذه الحكومة المدعومة من قبل أثيوبيا وأميركا التي تحرص على نجاح تلك الحكومة، لأهمية ذلك في تحقيق الاستقرار الإقليمي ومحاربة الإرهاب. وقد غامرت القوات الأميركية بوضع أقدامها في الأراضي الصومالية، لأول مرة منذ عام 1993، لملاحقة بقايا الإسلاميين الذين كانوا يسيطرون على البلاد منذ أسابيع قليلة فقط. واحتمال تماسك الصومال، أو تفككه وسقوطه بالتالي في حمام دم، لا يتوقف على القوات الأميركية فقط، ولا على قوات حفظ السلام، وإنما أيضاً على العشائر الصومالية لأن القبلية هي "سرطان الصومال"، كما يقول "علي مهدي محمدي" (وهو زعيم عشيرة نافذ كان ذات يوم ضمن المرشحين الذين خاضوا السباق الانتخابي لمنصب الرئيس في هذا البلد). فالصراعات العشائرية هي التي أسقطت حكومة الصومال عام 1991، كما أن المليشيات العشائرية هي التي أذلت القوات الأميركية عام 1993 مما أنهى مهمة إغاثة وإنقاذ الصومال التي بدأتها أميركا في ذلك الوقت. وأدت الحروب العشائرية إثر ذلك إلى مصرع الآلاف، وإلى تدمير العاصمة مقديشو وتحويلها إلى خرائب. والحكومة المؤقتة التي سيطرت قواتها على العاصمة منذ شهر، تحاول معالجة المشكل القبلي مباشرة. وهي تستخدم في ذلك طريقة حسابية تقوم على تحديد نسبة كل عشيرة وفقاً لآخر إحصاء للسكان أجرى عام 1975، حتى يتم تحديد عدد المقاعد البرلمانية والحقائب الحكومية المخصصة لها. وتخطط الحكومة للحكم بهذه الطريقة حتى موعد الانتخابات القادمة عام 2009. وتلك الطريقة في الحكم ليست جديدة، لكن تاريخها غير مشجع. فهناك 14 محاولة جرت منذ عام 1991 لتشكيل نظام حكم على أساس عشائري، لكنها آلت جميعاً إلى الفشل، علاوة على أنها تركت ميراثاً من الشك والعنف والتناحر بين العشائر. وتنقسم عشائر الصومال الرئيسية إلى عدد لا يحصى من العشائر الفرعية التي تنقسم بدورها إلى فروع، ثم إلى عائلات، بل إن كلمة عشيرة تعني شبكة من العائلات المتداخلة؛ كـ"الهويه" وعشائرها الأصغر مثل "العيَر". كان لدى الإسلاميين الذين سيطروا على السلطة منذ ستة شهور تقريباً حل لمشكلة العشائرية، حيث حاولوا استيعاب عشائر الصومال جميعاً تحت مظلة الإسلام الجامعة. وفي الحقيقة أن هذه المقاربة للمشكل القبلي بدت وكأنها في طريقها للنجاح، حيث نعمت العاصمة بمستوى من الأمن تحت حكم "المحاكم الشرعية" لم يسبق لها أن نعمت به منذ فترة طويلة. واستمر الوضع كذلك حتى ارتكب الإسلاميون خطأ قاتلاً بمحاولتهم السيطرة على جنوب ووسط الصومال بما فيه مدينة "بيداوا" مقر الحكومة الانتقالية. وقد استتبعت تلك المحاولة رد فعل غاضباً من الجارة إثيوبيا التي تمتلك أحد أقوى الجيوش في أفريقيا والتي تنظر إلى الإسلاميين كتهديد لأمنها. وخلال أسبوع واحد فقط كانت القوات الإثيوبية، بموافقة ودعم من الأميركيين، قد تمكنت من سحق المليشيات الإسلامية. والمقاومة التي ظهرت في مقديشو عقب الغزو الإثيوبي، تقوم على أساس عشائري، حيث تتركز الهجمات ضد القوات الصومالية المدعومة بقوات إثيوبية في المناطق التي كانت تمثل معاقل لـ"المحاكم الشرعية"، كما أن العشائر التي كانت مرتبطة بتلك المحاكم سيطرت على مناطق في العاصمة لا تستطيع قوات الحكومة المرور فيها حتى الآن، بل إن أفرادها يضطرون إلى خلع ملابسهم العسكرية والتخفي في ملابس مدنية كي يستطيعوا دخول هذه الأحياء. وينصح المسؤولون الأميركيون الحكومة الصومالية بالتصالح مع جميع العشائر، كما يبدون انزعاجهم من النزعة السلطوية التي ظهرت أعراضها على الحكومة المؤقتة بعد أن دخلت مقديشو وقامت بفرض الأحكام العرفية فيها، كما أغلقت محطات الإذاعة لبعض الوقت. وحذر السيناتور "راسل دي فنجولد"، رئيس اللجنة الفرعية للشؤون الأفريقية بمجلس الشيوخ الأميركي، من أن الحكومة الصومالية ستخسر إذا ما سارت على هذا النهج، وأنها ستضيع فرصة مهمة لفرض نفسها كحكومة موثوق بها وشفافة وممثلة للشعب بأكمله. لكن الحكومة المؤقتة تدافع عن الإجراءات التي اتخذتها بالقول إن الغرض منها هو فرض الأمن الذي يبدأ بنزع السلاح. لكن نزع السلاح تحول إلى مهزلة حيث لم يقم سوى بعض زعماء المليشيات بتسليم بعض البنادق القديمة والصدئة. ومن المشكلات التي تواجهها الحكومة المؤقتة وتجعل بعض أفراد الشعب يحنون إلى عهد "المحاكم الإسلامية"، رغم القيود الصارمة التي فرضت عليهم خلاله، أن عهد المحاكم شهد أمناً، وأن الحكومة المؤقتة دخلت إلى مقديشو تحت حماية الدبابات الإثيوبية. وتواجه القوات الإثيوبية في الوقت الراهن وضعاً حرجاً... فهي ربما كانت مستعدة لسحق "المحاكم"، لكنها ليست على استعداد للقيام بمهام قوات الشرطة. وتهدد هذه القوات حالياً بالرحيل كلياً في بحر أسابيع، وهي تحاول الضغط على الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لإرسال قوة لحفظ السلام لملء الفراغ. والمأمول الآن أن يكون سكان مقديشو قد تعبوا من القتال والحرب، بما يحول دون قيامهم بمواجهة قوات حفظ السلام، كما فعلوا عندما حاربوا القوات الأميركية قبل أربعة عشر عاماً. جيفري جتلمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل "نيويورك تايمز" في مقديشو- الصومال ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"