في بداية عام 2002 نشرت مجموعة من الأطباء السعوديين تفاصيل أول عملية لزراعة لرحم بشري في التاريخ، كانوا قد أجروها في أبريل من عام 2000. وحسب تفاصيل الخبر، الذي نشر حينها في إحدى الدوريات الطبية الدولية المعنية بطب النساء والولادة (International Journal of Gynaecology & Obstetrics)، تم الحصول على الرحم من متبرعة حية في السادسة والأربعين من عمرها، وزرع في سيدة تبلغ من العمر السادسة والعشرين، كان قد تم استئصال رحمها بعد تعرضها لنزيف خطير. وللأسف، وبعد أقل من ثلاثة شهور، قام الأطباء السعوديون بإزالة الرحم المزروع، بسبب تكون جلطات دموية في الشرايين المغذية له. ورغم قصر الفترة التي ظل فيها الرحم المزروع على قيد الحياة داخل جسد المتلقية، فإن استمراره وعمله لمدة ثلاث دورات شهرية كاملة، اعتبر حينها اختراقاً طبياً مهماً بجميع المقاييس. فهذا الحدث لم يثبت فقط إمكانية زراعة الأرحام بشكل نظري، بل أثبتها بشكل عملي، وظلت هناك فقط بعض العقبات الفنية الممكن تخطيها. وهو ما أشعل الآمال في قلوب ملايين النساء حول العالم، واللواتي فقدن أرحماهن لسبب أو آخر، مثل السرطان أو التليف أو النزيف أو العدوى الشديدة. ولكن رغم هذا النجاح، خرج بعض الأطباء حينها منددين بمثل هذا الإجراء، مثل الطبيب الشهير اللورد "روبرت وينستون"، واصفاً الإجراء بأنه مطابق لوضع قطعة من اللحم المتعفن داخل حوض امرأة، وهو في رأيه ما يهدد حياة المرأة المتلقية من جراء التعرض لخطر التجلط الدموي، مضيفاً أن إجراء هذه العملية في الولايات المتحدة أو بريطانيا، لن يكون مقبولاً من الناحية الأخلاقية بالمرة. وعلى عكس توقعات اللورد "روبرت"، كشفت مجموعة من الأطباء الأميركيين هذا الأسبوع، عن نيتها إعادة محاولة زراعة رحم بشري في المستقبل القريب. وكشفت أيضاً هذه المجموعة التي تعمل في مستشفى "داون تاون" بمدينة نيويورك، عن أن تجاربها خلال الستة شهور الأخيرة، قد أظهرت إمكانية الحصول على الأرحام من المتبرعات المتوفيات، تماماً كما تحصد الأعضاء الأخرى مثل القلب والكبد والكلية. وفور إعلان المجموعة الأميركية عن خططها تلك، اتصلت بها مئات السيدات اللواتي فقدن أرحامهن لسبب أو آخر، حيث تم اختيار 40 أو 50 سيدة منهن، يخضعن حالياً لاختبارات لتحديد مدى ملاءمتهن لمثل هذه العملية. وينوي الأطباء حصد البويضات أولاً وقبل زراعة الرحم، ثم تلقيحها خارجياً بأسلوب أطفال الأنابيب، وحفظ الأجنة الناتجة بأسلوب التجميد، ليتم نقلها إلى الرحم المزروع بعد أن يكون قد استقر في مكانه. هذه العملية برمتها لا زالت في مرحلة التفكير النظري، ولا يتوقع أن يتم تطبيقها عن قريب. ويعود السبب في ذلك إلى مشكلتين رئيسيتين، الأولى طبية، والثانية أخلاقية. المشكلة الطبية تتمثل في احتمالات رفض الجسم للرحم المزروع بعد أن يتم غرس الجنين فيه، وبعد أن يبدأ الحمل مشواره الطبيعي. فالحقيقة الأساسية في عمليات زراعة الأعضاء هي أن العضو المنقول هو عضو غريب، ولذا سيحاول جهاز المناعة في الجسم بذل قصارى جهده في مهاجمته والقضاء عليه. ورغم أن الأطباء يستخدمون ترسانة من الأدوية المثبطة للمناعة في عمليات الزراعة، فإن هذه العقاقير أحياناً ما تفشل، وينجح الجسم في قتل العضو الدخيل عليه. وحتى في الحالات التي تنجح فيها الأدوية المثبطة للمناعة في أداء مهمتها، يبقى الشخص المنقول إليه العضو منزوعاً من دفاعاته الطبيعية ضد الجراثيم والميكروبات. وإذا ما وضعنا في الاعتبار أن الشخص المنقول إليه العضو في هذه الحالة، هو امرأة تحمل جنيناً في بطنها، سندرك بسهولة أن الموقف هنا يزداد تعقيداً، نتيجة تأثير مثل تلك العقاقير على الجنين، وبسبب التثبيط الحادث لجهاز المناعة المسؤول عن حماية الأم وجنينها أثناء الحمل. وتظل الطامة الكبرى، هي حدوث رفض للرحم المزروع، أثناء الحمل وأثناء وجود الجنين بداخله. فرغم أن الأطباء ينوون إزالة الرحم المزروع بعد حمل واحد أو حملين على الأكثر، فإنه في حالة رفض الجسم للرحم أثناء الحمل، لا يصبح مثل هذا الخيار متوفراً. المشكلة الأخرى، أو المشكلة الأخلاقية، تتعلق بكون عمليات زراعة الأعضاء، مثل زراعة القلب أو الكبد أو الكلية، هي عمليات تهدف في الأساس إلى إنقاذ حياة المريض المتلقي للعضو المزروع. ولكن في الآونة الأخيرة، شرع الأطباء في تطويع التقنيات والأساليب التي طورت لذلك الهدف، وبدأوا في استخدامها في علميات تهدف فقط إلى تحسين نوعية حياة المريض، وليس إنقاذ حياته. وهو الاتجاه الواضح من تواتر الأخبار مؤخراً عن نجاح عمليات لزراعة الوجه أو اليدين، ثم محاولة زراعة الرحم. مثل هذه العمليات تحمل معها مخاطر استخدام الأدوية المثبطة للمناعة سابقة الذكر، والتي هي في أحسن الأحوال، إن لم تقضِ على حياة المريض، فمعروف عنها أنها تقصر من طول حياة مستخدميها. وفي حالة الرفض، ماذا يكون الحل لشخص تمت زراعة وجه جديد له؟ وما مصير جنين وجد نفسه في رحم يرفضه جسم أمه؟ وهناك أيضاً بعد آخر أخلاقي مادي، وهو تكلفة مثل تلك العمليات، والتي تتخطى مئات الآلاف من الدولارات للزراعة الواحدة. فكيف يمكن تبرير إنفاق مثل هذه المبالغ، في الوقت الذي تعاني فيه معظم الجهات الطبية من شح المصادر المالية. وهي المصادر التي يمكنها أن تنقذ حياة الآلاف والملايين، إذا ما أنفقت على خدمات الرعاية الصحية الأولية؟ د. أكمل عبد الحكيم