حين رحلت الفيلسوفة "هنان آردنت" في عام 1975، كان أكثر ما يميزها هو كونها فيلسوفة نزَّاعة للجدل، فهي التي كانت قد سكت مصطلح "عادية الشر". ومنذ ذلك الوقت، صعد نجمها حرفياً، إذ أطلق علماء الفلك، اسمها على أحد النجيمات الصغيرة التي تم اكتشافها عام 1990. وفي العام الماضي، ولدى احتفال كوكبة من المفكرين والمثقفين والصحفيين والعلماء بالذكرى المئوية لميلادها، كانت "آردنت" قد أكملت تلك الرحلة التي يقوم بها جميع الفلاسفة العظماء، أي من كونها مثيرة للجدل، إلى انغماسها في ساحة الفعل والتطبيق والممارسة. وفيما يبدو، ففي كل مرة من المرات، يستل أحد الخبراء نظريتها حول الشمولية من بين الملفات القديمة، يقوم بتوسيعها على ذات النحو الذي فعله حواريوها وأتباعها إبان فترة الحرب الباردة، ويعمد إلى تمديد نطاقها، حتى بلغت كلاً من تنظيم "القاعدة" وصدام حسين والنظام القابض في إيران، في نهاية الأمر. وكانت الفيلسوفة "آردنت"، قد جادلت في كتاب"جذور الشمولية" الذي ساد الاعتقاد بأنه من تأليفها، بالقول إن النساء والرجال الذين عاشوا خلال النصف الأول من القرن العشرين، كانوا يعانون من مشاعر الوحدة والقلق. ولذلك فقد كانوا يبحثون بين أنقاض الحرب والدمار الشامل الذي خلفته في أوروبا، عن ذلك الحجر السحري الذي أضفى على حياتهم معنى وأمناً ذات يوم. ولم يكن ذلك الحجر، سوى ثلاثية الدين والتراتب الاجتماعي والهوية القومية. وتمكن هؤلاء من العثور على ذلك الحجر السحري بعد جهد مضن، إذ وجدوا في الشمولية ضالتهم تلك التي كانوا ينشدونها. وتقول "آردنت" إن أولئك الأفراد اليائسين الهائمين على وجوههم في متاهة ما بعد الحرب، وجدوا في الشمولية – -ممثلة في النازية والستالينية وما إليهما- ذلك الرباط الوثيق الذي منحهم شعوراً بالترابط والبنية المشتركة الموحدة فيما بينهم. وعلى رغم الانتقادات اللاذعة التي وجهت لهذه النظرية، فإن عدداً من الكتاب والصحفيين، وجدوا فيها مؤخراً، تفسيراً لظاهرة الإسلام السياسي الراديكالي، ما جعل "آردنت" نجمة فلسفية للحرب الدائرة على الإرهاب اليوم. وعلى حد رؤيتهم، فإن في العولمة ما يهدد النظام القيمي والمؤسسي التقليدي لمنطقة الشرق الأوسط. وبسبب عجز العرب والمسلمين عن التكيف مع قيم الحداثة العلمانية، والدمار الخلاق الذي يمارسه النظام الرأسمالي، فقد لجأوا إلى البحث عن معنى وقيمة لحياتهم في لا معنى العنف من بوابة الدخول إلى التطرف الإسلامي. ذلك أن هذه النسخة المتطرفة المتشددة من الإسلام، تعمل على إحياء حقائق العصور الوسطى، وتحدد أدواراً متزمتة وثابتة للجنسين من الرجال والنساء، إضافة إلى إعادة إنتاجها للتراتبية التي تفتقر إليها المجتمعات المسلمة والعربية المعاصرة، وتسمح كذلك بممارسة العنف الأعمى ضد الغربيين والإسرائيليين معاً، بما يجيز لها تقسيم العالم كله تقسيماً حاداً قاطعاً إلى "نحن" و"هم" ولا شيء بين بين. بيد أن الخطل في هذا الاعتقاد، هو نفسه ذاك الذي اعتقدته "آردنت" خلال نظرتها وتفسيرها لظاهرتي الستالينية والنازية من قبل. والمشكلة أنه لا يفسح مجالاً يذكر للسياسة. وكما رأينا مراراً وتكراراً، فإن ما يدفع الإسلاميين المتطرفين إلى ما هم فيه الآن في العراق وأفغانستان وغيرهما، ليس هو شعورهم بالوحدة أو الاغتراب عن مجتمعاتهم، بقدر ما تدفعهم إليه مشاعر الحنق والغضب على دعم واشنطن الأعمى طويل الأمد لإسرائيل، وكذلك الغضب على دعمها للأنظمة العربية القمعية الباطشة، مضافاً إليه غضبهم على الحربين الأميركيتين الجاريتين الآن في كل من أفغانستان والعراق. أما في أوروبا، فإن مشاعر التمييز ضد المسلمين والعرب، هي الوقود المحرك لعنف الإسلام السياسي المتطرف. بيد أن الحقيقة العارية هي أن الحرب عمل، شأنها في ذلك شأن الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. فإذا ما كان لها أن تخاض، فلابد من توفير القوى البشرية والعتاد الحربي اللازمين لها. بل وفوق ذلك، فإنه لابد لها من إشراف ودفع وترويج ودق طبول وتهيئة ساحات. وهذا ما تضافر وتعاون عليه كثيرون هنا، عدا عن "المحافظين الجدد" الذين وفروا لها الأساس الفلسفي. وبما أن الحرب مهنة وحرفة في الأساس، فهي لاشك قائمة على الطموحات والأطماع الذاتية. وهكذا تدور قاطراتها ويشتعل لهيبها. ولكن هل توصلنا هذه القاطرة إلى بغداد أو كابول حقاً؟! كوري روبن ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤلف كتاب "تاريخ الفكرة السياسية" وأستاذ العلوم السياسية بكلية بروكلين وقسم الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"