هي أزمة جيلنا الذي عاش مرحلتين متتاليتين, مرحلة التحرر من الاستعمار ومرحلة ما بعد الاستعمار, مرحلة الثورة ومرحلة الدولة, مرحلة النضال الوطني ومرحلة التنمية الشاملة. وهو يشاهد نصب عينيه ضياع المكتسبيْن الرئيسيين، الثورة والدولة. فقد تحولت الثورة إلى ثورة مضادة, من مقاومة الاستعمار إلى التحالف معه, ومن مناهضة الصهيونية إلى الاعتراف بها. وانقلب اقتصادها من الاشتراكية إلى الرأسمالية, وتغير اقتصادها من الاعتماد على الذات إلى المعونات الأجنبية. ونعى المثقفون الوطنيون حظهم. وعابوا زمانهم. ورأوا مسار تاريخهم الحديث بين النهضة والسقوط, بين شرعية الثورة وعقل الدولة, لا فرق بين قومي وماركسي وليبرالي وإسلامي. الكل يبكي حظه, وينعي زمانه. فهل الثورة والدولة نقيضان أم متكاملان؟ وهي نفس القضية المطروحة الآن في القضية الفلسطينية بين "حماس" و"فتح". فـ"حماس" هي الثورة و"فتح" هي الدولة. ويكاد يقع التناقض بينهما إلى درجة الصراع المسلح, وإراقة الدم الفلسطيني مرتين، مرة بيد العدو الصهيوني، ومرة بيد المناضل الفلسطيني. ما هي طبيعة العلاقة بين الثورة والدولة؟ هناك أربعة أنماط للعلاقة بين الثورة والدولة أفرزها التاريخ, وتحققت في الواقع الثوري في الوطن العربي وخارجه. الأول "ثورة بلا دولة". وتمثلها التجارب الثورية قبل مرحلة التحرر الوطني مثل الثورة الجزائرية بكل فصائلها المتمثلة في "جبهة التحرير الوطني"، والثورة الفلسطينية, "حماس" و"فتح" معاً، والممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية, وجميع ثورات العالم مثل الثورة الفيتنامية, والثورة الصينية، والثورة الكوبية. فلا توجد سلطة إلا سلطة الثورة لأن الدولة كانت بين المحتل الأجنبي أو العميل الوطني. وبعد النصر تتحول بطبيعتها إلى دولة. وهكذا نشأت الدولة الوطنية الحديثة. فالثورة بعد أن تحقق أهدافها لا تستمر. تخبو وتبرد بطبيعة الأشياء. وتصبح جزءاً من السياق الوطني والإقليمي والدولي. ويتحول الخيال الثوري إلى ترشيد عقلي. ويتحقق المثال في الواقع. ولكل منطقه، ما ينبغي أن يكون للثورة وما هو كائن للدولة. وقد يقع الشقاق بين فرقاء الأمس, وينتصر فريق الواقعية السياسية على فريق النقاء الثوري، "فتح" دون "حماس". حينئذ ينشأ النمط الثاني "دولة بلا ثورة"، واقعية سياسية بلا روح ثورية، مما يؤدي إلى سلسلة من التنازلات السياسية من الدولة بحجة التعايش مع النظام الدولي في الخارج والاستقرار السياسي في الداخل, وتوفير لقمة العيش للمواطنين ضد شعار "تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها". وتقمع المعارضة السياسية التي تمثل روح الثورة والبدائل السياسية. وقد ينتهي الأمر إلى شق الصف الوطني، والوقوع في حرب أهلية بين رفقاء الأمس, بين الدولة والثورة. تسفك الدماء, وتُتبادل الاتهامات بالعمالة والخيانة, وهو ما يحدث بين "فتح" و"حماس" اليوم. حينئذ ينشأ النمط الثالث "لا ثورة ولا دولة". فتضيع مكتسبات مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار والصهيونية, وهي الثورة, وتضيع مكتسبات مرحلة ما بعد الاستعمار, وهي الدولة. لم يتعود الشعب على الثورة بعد احتكارها من الدولة, فاهتم بلقمة العيش داخل البلاد أو هاجر لمزيد من الرزق شرقاً إلى بلاد النفط أو غرباً إلى سوق العمل أو شمالاً للبلاد المتقدمة كي ينعم بالخبز والحرية في آن واحد خارج البلاد. ولم يتبق من الثورة إلا أحزاب معارضة تقليدية قومية أو ليبرالية أو يسارية ضعيفة أمام الدولة الأمنية والحزب الحاكم أو إسلامية غير شرعية, جماعة محظورة يمارس بعض أجنحتها العنف في العمل السري بالعقلية الانقلابية, ثورة على الثورة أو دولة داخل الدولة. ولا يبقى أمام بعض المثقفين الوطنيين إلا الهم والغم أو التفريج عن الكرب بالعمل الأدبي أو الفني أو الثقافي. يسبحون ضد التيار ولم يغرقوا بعد. جزر منعزلة لم يغمرها الطوفان. وتتحول الدولة إلى دولة قاهرة لخصومها السياسيين في الداخل, وتجد تعويضاً عنها في أحلافها الجديدة في الخارج, وهي التي طالما قاومت الأحلاف والمحاور في عصر الثورة. وتمتلئ السجون بالمعتقلين السياسيين طبقاً لقانون الطوارئ, أو قانون الإرهاب أو قانون حماية الوحدة الوطنية أو قانون الاشتباه أو قانون العيب, وإنكار ما علم من الدين بالضرورة وهو طاعة أولي الأمر درءاً للفتنة بين الناس ومنع وقوع الفساد في الأرض. ويتوقف الخيال السياسي. وتغيب البدائل. فليس في الإمكان أبدع مما كان. وتلتصق الدولة بالدول الكبرى تجد سنداً فيها. تتفكك الدولة من الداخل. وتتحول من حامل لمشروع وطني يجمع بين الناس إلى مجموعة من الشلل المتناحرة. فللخاص الأولوية على العام. ولرجال الأعمال الأسبقية على رجال السياسة. توضع المعارضة في السجون، وتتفكك الدولة وتتحول إلى جماعات ضغط, وشلل سياسية، ومجموعات مصالح متضاربة. فالوطن فقد روحه باستئصال الثورة, وفقد جسده بتفكك الدولة. تخرج الدولة من حركة التاريخ ومسار الزمن. فتحدث الانقلابات العسكرية من بقايا الجيوش الوطنية وأجيال جديدة من "الضباط الأحرار"، بالرغم من استئناس الجيوش وتحويلها إلى مؤسسات اقتصادية، وجعلها درعاً حامياً للسلام, الخيار الاستراتيجي الأوحد، بعد أن أصبحت حرب أكتوبر آخر الحروب، والأراضي العربية في فلسطين وسوريا ولبنان وفي أم الرشراش في مصر ما زالت محتلة. وقد تحدث هبات شعبية عارمة من جماهير الفقراء ضد الأغنياء كما حدث في الهبة الشعبية في يناير 1977، وفي هبة قوات الأمن المركزي في 1986. ربما يحدث النمط الرابع "ثورة ودولة" عوداً على بدء إلى عصر النضال الوطني من أجل القيام بحركة تحرر وطني ثانية لتصحيح حركة النضال الوطني الأولى واسترجاع مكتسباتها, الدولة الوطنية المستقلة, والتنمية البشرية المستدامة. هكذا استقلت فيتنام بعد حروب تحرير طويلة ضد الاحتلال الياباني أولاً، والاستعمار الفرنسي ثانياً، والعدوان الأميركي ثالثاً. واستمرت المفاوضات خمس سنوات في باريس، والقتال على أشده في فيتنام. ثورة في الداخل, ودولة في الخارج. ثورة تقاوم، ودولة تفاوض. وهناك تجارب أخرى عديدة للثورة والدولة في الاتحاد السوفييتي السابق، وفي الصين والهند وكوبا. ومر الوطن العربي بها في مصر والجزائر تحت شعار "يد تبني، ويد تحمل السلاح". والحقيقة هناك نمط خامس هو التكامل بين الثورة والدولة, بين الهجوم والدفاع, بين الرمح والدرع, بين المقاومة والمفاوضة, بين "حماس" و"فتح", بناء على تقسيم العمل بين الداخل والخارج. الثورة قلب، والدولة عقل. الثورة روح، والدولة بدن. الثورة ما ينبغي أن يكون، والدولة ما هو كائن. الثورة مثال وخيال وشهادة, والدولة واقع وسياسة وبقاء. ولا تعارض بين الوظيفتين. كلتاهما سلطة, سلطة الشعب وسلطة النظام, سلطة من أدنى وسلطة من أعلى, سلطة تشريعية وسلطة تنفيذية. هذا ليس توفيقاً أو تلفيقاً بين متعارضين، أو انتهازية سياسية لاحتواء الاثنين بل هو حرص على مبدأ سابق على الثورة والدولة وهو الوطن, وهدف تالٍ للثورة والدولة وهو الوحدة الوطنية. ما يعوق هذا النمط المتكامل بين الثورة والدولة هو بعض جوانب الموروث الثقافي الحديث والقديم, مثل المدخل الأيديولوجي للواقع العربي الراهن, وإعطاء الأولوية للعقيدة على الشريعة، وللنص على الواقع, وللقول على الفعل, وللفرقة الناجية على الفرقة الهالكة. وهو تعبير عن العجز عن مواجهة الواقع، الاحتلال في الداخل، والحصار في الخارج. ليست حكومة الوحدة الوطنية بصعبة المنال, دولة من "فتح", وثورة من "حماس", دولة في القصر, وثورة في الشعب.