فيما تُظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن الأميركيين لا يريدون المزيد من التورط في العراق، تبرز في المقابل استعدادهم التام للانخراط على نحو أكبر في أزمة دارفور بالسودان. وليس من الصعب إدراك السبب، فبالنسبة للرأي العام الأميركي تنطوي الحرب في العراق على الكثير من الارتياب والتعقيد، في حين تبرز دارفور على أنها الفرصة الأمثل لمساعدة المنكوبين باعتبارهم ضحايا لا يرقى إليهم الشك. وهكذا تسلك أزمتا دارفور والعراق طريقين مختلفين في العقل الأميركي؛ إذ تحيل الأولى إلى أزمة إنسانية صرفة، بينما تشير الثانية إلى حرب فاشلة حادت عن مسارها الصحيح. بيد أن الواقع على الأرض لا يؤيد تلك التقسيمات التي يقيمها الرأي العام الأميركي. فقد ذكرت الأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي أن أكثر من 34 ألف عراقي لقوا حتفهم بطرق عنيفة للغاية في عام 2006 فقط. وفي اليوم ذاته الذي صدرت فيه هذه المعلومات انفجرت قنبلة في إحدى الجامعات في بغداد مودية بحياة 70 شخصاً أغلبهم من الطلبة. ولا تقف الأزمة العراقية عند هذا الحد، بل تمتد لتشمل الأعداد المتزايدة من النازحين، فضلاً عن الجثث التي يعثر عليها يومياً وهي تحمل آثار التعذيب. وتشير التقديرات إلى أن الحصيلة النهائية من المدنيين العراقيين الذين سقطوا في العراق قد تجاوزت ضحايا حرب البوسنة، وقريباً ستتخطى حصيلة العنف الطائفي في العراق عدد القتلى في دارفور التي يتراوح عدد القتلى فيها حسب التقديرات ما بين 200 و400 ألف سقطوا منذ اندلاع المواجهات في الإقليم السوداني. ومع ذلك ليس من السهل إقناع الأميركيين بأن ما يجري في العراق هو أزمة إنسانية لا تقل في مأساتها عما يشهده دارفور. وإذا كانت معرفتنا بالعراقيين في البداية سطحية، حيث كان من السهل النظر إليهم كضحايا، خاصة الشيعة والأكراد منهم الذين تكلفنا بحمايتهم قبل سقوط النظام في العراق من خلال الحظر الجوي المفروض على مناطقهم، إلا أنهم اليوم أصبحوا أبعد ما يكونون عن الفهم الأميركي عندما اصطف الشيعة وراء قادتهم الدينيين وبدا همهم الوحيد هو الثأر من خصوم الماضي. ومع أن التعاطف الأميركي مع العراقيين كان كبيراً عندما توجهوا إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية، إلا أنه سرعان ما تبدد مع تفشي العنف الطائفي. لكن بالعكس من ذلك يظل ضحايا دارفور حالة مجردة من الظلم والمأساة الإنسانية. فالحملة التي تقودها المنظمات العالمية للدفاع عن أهالي دارفور وتحمل اسم "أنقذوا دارفور" تطلعنا الكثير عن ميلشيات "الجنجويد" وما تمارسه من عمليات التطهير العرقي في المنطقة، لكنها نادراً ما تشير إلى التجاوزات التي يرتكبها المتمردون أنفسهم التي تساهم في زعزعة الاستقرار وتعميق الأزمة. وبالنظر إلى التجارب العالمية السابقة مع الأزمات المستفحلة ليس غريباً أن يلجأ المجتمع الدولي إلى تصوير أزمة دارفور على نحو مبسط والتعامل مع أبعادها الإنسانية. فما يحتاجه العالم للبدء في التحرك هو رصد جماعة من الضحايا وقع عليها ظلم واضح مثلما حصل للمسلمين المحاصرين في البوسنة، أو أهالي كوسوفو في يوغوسلافيا. والحال أن العراق يفتقد إلى هذه الجماعة الواضحة من الضحايا لاستدرار التعاطف العالمي. فلا السُّنة، أو الشيعة يمارسون حالياً ثقلا وازناً على الضمير الأميركي، حيث يظهر السُّنة من جهة كطغاة سابقين حكموا العراق بالحديد والنار من خلال الرئيس السابق صدام حسين، ويبرز الشيعة من جهتهم كمتطرفين يأتمرون بما تمليه عليهم إيران. وإذا كان الأكراد في فترة معينة قد كسبوا التعاطف الدولي، إلا أنهم خرجوا اليوم من دائرة الصراع الطائفي الجاري حالياً في العراق. وبالإضافة إلى استياء الأميركيين من الفصائل العراقية المختلفة ما يحول دون تحول العراق إلى أزمة إنسانية وبالتالي نيل التعاطف الدولي، هناك أيضاً القتلى الأميركيون الذين فاق عددهم ثلاثة آلاف جندي، فضلاً عن الآلاف من الجرحى الأميركيين. ففي سياق الخسائر الأميركية المتزايدة يتبدد أي شعور بالتعاطف من قبل الأميركيين ليصبح العراق ساحة معركة مجردة من الاعتبارات الإنسانية. وقد تكرر الأمر ذاته في الأزمة الصومالية لعام 2003 عندما تلاشى الحماس الأميركي لمساعدة الصوماليين بعد قتل 18 جندياً أميركياً في شوارع مقديشو، ملغياً بذلك أي التزام أميركي بمساعدة الصومال. ويتكشف الملل الذي يشعر به الأميركيون تجاه العراق من خلال استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة "لوس أنجلوس تايمز". فرغم أن 30% من الأميركيين المستجوبة آراؤهم أعربوا عن رغبتهم في بقاء الجنود في العراق لكسب الحرب، أعلن 19% منهم عن رغبتهم في سحب القوات فوراً، بينما فضل 46% أن يُشرع في إعادة القوات الأميركية إلى أرض الوطن قبل نهاية السنة الجارية. والواقع أن هناك العديد من الأسباب التي تدعو الأميركيين إلى نفض أيديهم عن العراق تأتي في مقدمتها البداية الخاطئة التي رافقت الحرب، لاسيما فيما يتعلق بالمعلومات الاستخباراتية المغلوطة عن أسلحة الدمار الشامل. وفي هذا السياق يرى البعض أن إرسال المزيد من القوات الأميركية إلى العراق لن يسهم سوى في جذب "الجهاديين" إلى المنطقة، وبالتالي إدامة الحرب لفترة طويلة. وإذا كانت هناك من ضرورة لبقاء القوات الأميركية في العراق للحد من العنف المستشري، مهما كان ذلك صعباً، فلا أقل من الضرورة الأخلاقية التي تحتم علينا الاستمرار في مساعدة العراقيين الذين راهنوا على العملية السياسية المنبثقة من الحكومة الجديدة لإخراج بلدهم من أزمته المستفحلة. ديفيد بوسكو ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"