من الغريب والمثير للاهتمام أن يزهر النرجس البري في حديقتنا الأمامية، هنا في شهر يناير الحالي. وها هي تشكل باقة يانعة صفراء حول الممر المؤدي إلى الشارع العام. غير أن من شأن ارتفاع درجات الحرارة درجة في واشنطن، وفي شهر يناير، أن تفعل ذلك وأكثر. ولما كانت أزهار النرجس البري قد جملت المكان بكل هذا القدر في منتصف شهر يناير، فلمَ لا نأمل في تفتِّق الورود نفسها في شهر فبراير من العام المقبل؟ لست أدري كيف يشعر الآخرون الذين لا أعرفهم. غير أنني وحين أرى أشياء تحدث الآن في الطبيعة، ولا قبل لي بها طوال حياتي، مثل أن تتفتق أزهار النرجس البري في يناير، فإن الأمر يبدو مقلقاً ومثيراً للضيق بالنسبة لي، ويجعلني أشعر وكأنني أعيش في منطقة ما من مناطق شفق الغروب. وهل لنا أن نستبعد، بعد الذي رأيناه، أن نستيقظ ذات صباح شتوي، فنطل من نوافذ بيوتنا لنرى بعض المارة وهم يرتدون ملابس الصيف الزاهية القصيرة؟! لمَ لا؟ فقد كان شهر ديسمبر الماضي، الموسم الرابع الأعلى حرارة في سجلات الأرصاد الجوي، بينما كان العام الماضي، الأكثر سخونة في أميركا منذ عام 1895. وكذلك أعلن العام نفسه باعتباره الأشد سخونة في بريطانيا منذ عام 1695. وفيما يبدو، فقد لاحظ البيت الأبيض نفسه هذا الارتفاع الملحوظ في درجات حرارة المناخ العالمي. ولعل ذلك ما حدا بـ"آل هبارد"، المستشار الاقتصادي للرئيس جورج بوش، إلى القول إن بوش سيعلن قريباً عن سياسات جديدة بشأن استقلال بلادنا في مجال الطاقة، يتوقع لها أن تصنع الأخبار والعناوين الرئيسية للصحف والنشرات التلفزيونية والإذاعية، فيكون لها صدى غير مسبوق في هذا المجال. ولما كان قد طال بي الانتظار لسماع أخبار كهذه من البيت الأبيض على وجه الخصوص، فكم أنا شغوف ومتعطش لسماعها من الرئيس نفسه. والشاهد أنه لا البيت الأبيض ولا الحزب "الديمقراطي"، بقادرين على إدراك سبق الوسط الاستثماري وعامة الجمهور الأميركي لهما بعدة أميال، في كل ما يتصل بقضايا الطاقة والبيئة. وفي اعتقادي أن المرشح الرئاسي الذي سيتمكن من تقدير أهمية وأولوية هذه القضايا، ومن بلورة أجندة عمل خاصة بمجالي الطاقة والبيئة، هو الذي سيفوز بانتخابات عام 2008 الرئاسية. فما هي الأجندة الأكثر إقناعاً هنا؟ لطالما اعتقدت أنها ستكون شيئاً من طراز "مشروع مانهاتن للطاقة" فيما مضى، غير أني لم أعد الآن على قناعتي هذه، لأنني أدركت أنه ما من طلقة سحرية واحدة تنجِّينا من اعتمادنا على النفط الأجنبي، ولا من شأنها خفض انبعاثاتنا من الغازات المُسببة لظاهرة الاحتباس الحراري. كما علمت أن الساسة الذين ينادون بحلول سحرية كهذه، إنما يتهربون في الواقع من مطالبتنا بالتضحية الواجبة الآن. ولذلك فالسياسة الأنسب هي أن يدعو ساستنا إلى ما أسميه "الصفقة الجديدة الخضراء". ولم تقم دعائم هذه الصفقة على الحلول والطلقات السحرية، وإنما على مجموعة واسعة من البرامج والمشروعات الصناعية التي قصد بها إكساب أميركا حيوية جديدة. وإذا ما أردنا حقاً المساهمة في إحداث تغيير يذكر في درجات المناخ الحالي، وأن نكف عن إدماننا للنفط، فسنكون بحاجة للاستثمار في كافة مصادر الطاقة المتجددة البديلة، من رياح وطاقة شمسية، وإيثانول، وبيوديزل، وطاقة فحم حجري نظيفة، إضافة إلى الطاقة النووية. وفوق ذلك كله، فما أحوجنا لسياسات وقيم الحفاظ على البيئة. أما الحاجة إلى "صفقة جديدة" فمردها إلى أن تطوير كافة هذه التقنيات الجديدة إلى الحد الذي يمكنها من إحداث الأثر والتغيير المطلوبين، يتطلب إنشاء مشروعات صناعية استثمارية عملاقة لها. ولكن لنذكر أنه لا سبيل لنا إلى "تخضير" العالم، إلا بتحويلنا لطبيعة الشبكات الكهربائية القومية التي نستخدمها نفسها. وهذا ما يعني تحويلها من مصادر النفط والفحم الحجري الملوثة، إلى شبكة تعمل بطاقة الفحم الحجري النظيفة، وكذلك بجميع مصادر الطاقة البديلة والمتجددة. هذا ويتطلب إطلاق هذه الصفقة الخضراء الجديدة، عنصرين أساسيين لا غنى عنهما: الأسعار، واللوائح والقوانين الحكومية المنظمة لها. ولنا في تجربة ولاية كاليفورنيا خير مثال وقدوة في هذا. فبوضعها معايير جد عالية في مجال كفاءة استهلاك الطاقة في المباني والأجهزة والمعدات، فضلاً عن إنشائها لنظام حث المستهلكين على خفض معدلات استهلاكهم، استطاعت الولاية أن تبقي على ثبات نسبة الاستهلاك خلال 30 عاماً، في حين شهدت معدلات استهلاك الطاقة ارتفاعاً ملحوظاً في الولايات الأخرى، يصل إلى نسبة تقارب 50 في المئة، حسب الإحصاءات الواردة في تقرير "مجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية". وخلافاً لذلك، فقد مكَّن ثبات معدل استهلاك الطاقة في كاليفورنيا من تفادي بناء 24 محطة جديدة عملاقة من محطات الطاقة. وبالقدر ذاته، وفيما لو لم يتراجع الرئيس الأسبق رونالد ريجان عن معايير كفاءة استهلاك الطاقة المفروضة على ولاية "ديترويت" وقتئذ، لما كنا بحاجة اليوم إلى نفط الشرق الأوسط. فالمعروف أن ارتفاع مستوى المعايير، يدفع بعجلة الابتكار، بينما يؤدي الابتكار بدوره إلى الارتقاء بمستوى الحفاظ على البيئة. على أن للأسعار أيضاً أهميتها بالطبع. ولا يهمني أن تكون هذه الأسعار ضريبة تفرض على الجازولين أم على انبعاثات غاز الكربون، أم خلافه. ولكن الذي يهم هو أن يسدد أصحاب الشركات والمصانع، وكذلك سائقو السيارات، ثمن التكلفة الكاملة لما يطلقونه في الغلاف الجوي من غاز ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات السامة الضارة بالبيئة والمجتمع معاً. وليس في حساب هذه التكلفة شيء من تعقيد علم الفيزياء النووية أو علم الصواريخ. توماس فريدمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"