خلال نحو خمسين عاماً -وفترة العقد ونصف العقد المنقضية على انتهاء الحرب الباردة- ظل الردع يمثل السياسة المركزية في مجال الأسلحة بين واشنطن وموسكو. والسؤال الآن: هل هذه السياسة لا تزال مناسبة أم أنها استنفدت أغراضها؟ يحاول الكتاب الذي نعرضه في هذه المساحة، وعنوانه "فيما وراء الردع النووي: تحويل المعادلة الأميركية- الروسية"، وقد ألفه كل من "أليكسي أرباتوف" (رئيس قسم منع الانتشار النووي في مركز موسكو التابع لمؤسسة كارنيجي، ورئيس معهد الأمن والعلاقات الدولية في الأكاديمية الروسية للعلوم) و"فلاديمير دفوركين" (كبير الباحثين بمركز الأمن الدولي في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم). يحاول الكتاب من منظور نقدي تقييم تاريخ الردع النووي منذ ظهوره كسياسة في نطاق المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، مروراً بتطوره خلال الحرب الباردة، والوضع الذي انتهى إليه بعد انضمام مزيد من الأعضاء إلى النادي النووي. يرى المؤلفان أن سياسة الردع النووي لا تمتلك الآليات اللازمة لمواجهة التحديات التي يعج بها عالم اليوم، والتي من أبرزها الانتشار النووي والإرهاب... كما أن هناك حاجة للقيام بتطوير "مفهوم" الردع النووي ذاته حتى يصبح أداة مناسبة لمفاوضات الحد من الانتشار النووي والتي غالباً ما تنتهي بالإخفاق نتيجة للاختلاف على تعريف هذا المفهوم. ويتوجب على الولايات المتحدة وروسيا، بشكل خاص، اتخاذ الخطوات المشتركة الأولى من أجل تعديل مفهوم الردع النووي حتى يمكن تسويقه دولياً. والهدف الذي يسعى إليه هذا الكتاب هو توضيح المفاهيم والمقترحات التي قد تساعد على تغيير سياسة الردع النووي، والتي لا تزال قائمة بين أكبر قوتين نوويتين في العالم، الولايات المتحدة وروسيا، وتحويلها إلى سياسة جديدة مناسبة للتغيرات التي طرأت على الساحة العالمية. ويذهب المؤلفان إلى أن عملية التغيير هذه ستتطلب في مرحلة من المراحل اشتباكاً بين بعض القوى النووية في العالم بحيث يتحول الجهد في النهاية إلى استراتيجية دولية متعددة الأطراف تضم القوى النووية الخمس الكبرى، بالإضافة إلى القوى النووية الجديدة، فضلاً عن بعض الجوانب المتعلقة بتطوير ونشر واستخدام الأسلحة التقليدية. يقول المؤلفان إنه عندما تطرأ ظروف دولية دراماتيكية تؤدي إلى تغيير العلاقات بين القوى النووية وتجعل تلك القوى تتوقف عن النظر إلى بعضها بعضاً كأعداء، كما حدث مثلاً بين واشنطن وموسكو عقب انتهاء الحرب الباردة، فإن القوات المسلحة لتلك الدول تظل محتفظة بقدراتها النووية السابقة، كما تظل قوة الدفع النووي قائمة أيضاً. فتلك القوات لا تستطيع أن تتكيف مع الأوضاع الجديدة، والدخول في علاقة تعاون مع أعداء الأمس، دون مجهود سياسي وتقني ضخم. بعد ذلك يتطرق الكتاب إلى نقطة غاية في الأهمية، وهي أنه ليس من الضروري حدوث تطورات دراماتيكية تغير شكل العلاقة النووية بين دولتين أو أكثر، كما كان الحال بين الولايات المتحدة وروسيا، وإنما يمكن حتى من دون حدوث تلك التطورات أن تحدث ظروف أخرى لا تتعلق بتلك المواجهة؛ ومنها على سبيل المثال ظهور قوى نووية جديدة قد تكون من بينها قوى تتبنى سياسات أو مواقف معادية لإحدى القوتين العظميين أو لكليهما معاً. وفي حالة ما إذا كانت قوة أو أكثر من تلك القوى الجديدة تتبنى علاقة ودية مع قوة من القوتين العظميين النوويتين وعلاقة عدائية مع القوة الأخرى، فإن مجرد ظهور تلك القوى على الساحة الدولية، لابد أن يؤدي حتماً إلى التأثير على طبيعة العلاقة القائمة بين العملاقيين النوويين، كما يمكن أن يؤدي إلى تغيير طبيعة العلاقة الاستراتيجية القائمة بينهما حول الانتشار النووي، وهو ما يؤدي إلى مزيد من التوتر على الساحة النووية العالمية، مع ما يصاحب ذلك عادة من تداعيات سلبية سياسية وعسكرية وقانونية. ويذهب المؤلفان إلى أن هناك ثلاثة أسباب تدعو إلى تجاوز سياسة الردع النووي وإحلالها بعلاقة استراتيجية بناءة بين أميركا وروسيا، كمرحلة أولى، ثم بين جميع الدول الأعضاء في النادي النووي فيما بعد. السبب الأول، هو أن الردع النووي لم يعد ذا جدوى في مواجهة التهديدات والتحديات الحقيقية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. والسبب الثاني هو أن العلاقات المتضمنة في الردع النووي المتبادل تضع حدوداً وقيوداً ملموسة على قدرة الدول العظمى في مجال التعاون على مواجهة التحديات والتهديدات الجديدة. أما السبب الثالث والأخير، فيتعلق بمشكلة تخصيص الموارد، خاصة أن الاحتفاظ بسياسة الردع النووي في مستوياتها الحالية، أو حتى في مستويات أقل منها، يتطلب تخصيص موارد مالية باهظة سواء من جانب الولايات المتحدة -التي قد لا تجد صعوبة كبيرة في ذلك- أو من جانب روسيا التي ستتحمل عبئاً أكبر بسبب محدودية إمكانياتها مقارنة مع الولايات المتحدة. ويرى المؤلفان أن إبقاء سياسة الردع النووي في مستوياتها الحالية، معناه أن القوى النووية ستنفق موارد ضخمة كان من الأجدى تخصيصها لأغراض عسكرية وأمنية أخرى أو للقيام بمهمات إنسانية ومهمات حفظ سلام في أماكن مختلفة من المعمورة. لذلك فقد حان الوقت لاستبدال الردع النووي بسياسة أخرى يمكن أن نسميها "الشراكة النووية" أو "الإدارة المشتركة للأسلحة النووية" أو "سياسات الأسلحة النووية التعاونية" أو "الإطار الأمني النووي المشترك"... أو أي اسم آخر؛ فالمهم هنا ليس الاسم وإنما الجوهر، وهو الهدف الذي، كما يقول المؤلفان، قاما بتأليف هذا الكتاب من أجله. سعيد أحمد الكتاب: فيما وراء الردع النووي: تحويل المعادلة الأميركية- الروسية المؤلفان: أليكسي أرباتوف وفلاديمير دفوركين الناشر: مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي تاريخ النشر: 2006