كنت قد توقفت في المقال السابق حول خطورة الحركات التبشيرية، عند حالة التمدد المتزايد لتلك الحركات داخل الجسد العربي والإسلامي، لاسيما خلال العقدين الأخيرين، وقلت إنه يجب أن ننتبه جيداً لخطورة هذا التمدد الذي ينطلق أساساً من مخطط عالمي يهدف إلى تنصير المنطقة العربية والإسلامية، تحت مسميات وعناوين مختلفة. لكن النشاط التبشيري قد يكون أشد خطراً وأعمق تأثيراً من الحروب العسكرية الحالية، لأنه يستهدف تدمير الجانب العقائدي والفكري والثقافي والتربوي والأخلاقي عند الإنسان المسلم، وذلك بأساليب ووسائل غاية في الدقة، لاسيما بعد أن أدرك القائمون على ذلك المشروع، من خلال تجاربهم السابقة، أنه ما من دين وقف أمامهم بقوة إلا الدين الإسلامي. ولأشير هنا إلى ما كتبه لويس التاسع ملك فرنسا في وصيته المشهورة بعد أن هزمه المسلمون، إذ قال: "إن المسلمين لا تهزمهم الجيوش، وعلى الغرب الصليبي أن يتخلى عن استخدام الحروب المادية ويستبدلها بالحروب الثقافية والفكرية". لذلك فقد تحرك المخطط التنصيري بقوة في هذا الاتجاه، حيث كشفت ندوة عقدتها صحيفة "عكاظ" السعودية مؤخراً أن حجم الكتب التنصيرية التي تم إصدارها عام 2000 تجاوز 44 مليون عنوان، وزعت بـ362 لغة، كما يصدر نحو 900 ألف كتاب سنوياً، إضافة إلى أن منظمات التنصير تملك 11 ألف محطة إذاعية وتلفزيون و7.5 مليون منصر و255 دورية وكتاباً، وتم توزيع نحو 1.9 مليار نسخة من الإنجيل، وبلغ عدد الكتب التي تتحدث عن السيد المسيح، كمحور رئيسي، في مكتبات العالم نحو 65.57 مليون كتاب. إضافة إلى أنه رُصدت لمخططات التنصير حتى عام 2025 ميزانية تصل 870 مليار دولار. لقد أعطت حقبة الاستعمار الغربي لكثير من بلاد العالم الإسلامي، دفعاً واسعاً لحركات التبشير في مجتمعاتنا، خاصة بعد أن تحالفت حركة التبشير العالمية بقوة مع هذه المطامع الاستعمارية الساعية إلى السيطرة على أراضي وخيرات وثروات العالم غير الغربي. وقد أصبحت للحملات التنصيرية مخاطر جمة تكمن في ثلاثة أمور: الأول: تحول التنصير من الممارسات الخفية وغير المباشرة إلى ممارسات مباشرة ومكشوفة. والثاني: نشر الإنجيل بنسخ وطبعات مختلفة، بطريقة أقرب إلى طريقة طباعة المصحف الشريف وترقيمه، بل إنه يستخدم أحياناً بعض الآيات القرآنية ويطلق على المسيح اسم عيسى بن مريم عليه السلام، بدلاً من يسوع كما هو موجود في معظم الأناجيل... هذا إلى جانب استخدام التكنولوجيا ومواقع الإنترنت والكنائس ومراكز التنصير... بصورة مفرطة. الثالث: وهو الخطر السياسي؛ حيث أثبت أن الفاتيكان لعب دوراً سياسياً تجاه كثير من الأحداث الكبرى في القرن العشرين، ووضع سياسة التنصير لأهداف سياسية، شملت في بعض المرات تمزيق دول إسلامية، كما هو الشأن بالنسبة لإندونيسيا مثلاً. ويشير أحد الدعاة المسلمين في بنجلادش إلى أن جيش المنصِّرين هناك يركزون أنشطتهم في المناطق الحدودية تمهيداً لفصلها عن بنجلادش، ويقدمون الأسلحة للحركات الانفصالية، خاصة قبيلة "جاروهيل" التي تنصَّرت وشنت حرب عصابات ضد الحكومة في مناطق "شيتاجانج" للمطالبة بنيل الاستقلال عن بنجلادش. إزاء هذه الظاهرة النشطة، يجب أن نسأل أنفسنا: كيف نواجه الخطر القادم؟