عندما نمعن النظر في الحالة العراقية أو الصومالية أو الفلسطينية أو اللبنانية أو حتى السودانية الحالية... لابد أن نسترجع في أذهاننا ظاهرة عربية عامة تتعلّق بتكوُّن الدولة العربية القطْرية الحديثة وعلاقتها بمجتمعها المدني. فهذه الدولة لم تكن حصيلة تطور مجتمعي تدرّّّّّجي يؤدّي إلى قرار واعٍ وواضح بإقامة دولة تنظّم المجتمع وتستجيب لحاجات أبنائه وتدافع عن كيانه ضدّ أعدائه، كما كان الحال بالنسبة مثلاً للدولة الأوروبية الحديثة التي خلقها المجتمع ولم تخلقه. وبغضِّ النظر عما كان عليه الحال قبل الاحتلال الأجنبي الاستعماري للغالبية الساحقة من مجتمعاتنا العربية، فإن الدولة العربية الحديثة قد تكونت بشكلها الذي نراه اليوم بعد تحرّرها الوطني وحصولها على الاستقلال. ولما كان الاستعمار قد أضعف المجتمعات التي حكمها وأجّج كل تناقضاتها العرقية والمذهبية والقبلية ونهب ثرواتها وأبقى على تخلّفها، فإن تلك المجتمعات لم تكن في حالة تسمح لها بأن تساهم بفعاليّة في وضع شروط الدولة التي تكونت بعد الاستقلال. فكانت النتيجة أن تكونت تلك الدولة عن طريق نخب فئوية قامت على أساس الغلبة أو العصبيّة الخلدونية أو الاستمرارية التاريخية أو الانتماء لحركة التحرر الوطنية. وقد قبلت المجتمعات بتلك الترتيبات، راضية أو رغماً عنها، معتمدة على وعود من تلك النخب بأنها ستقيم دولة تساهم في تحديث وتنمية تلك المجتمعات حتى تخرج من حالة تخلّفها التاريخي وتشرذمها وخلافاتها الفئوية وتضارب مصالح مكوّناتها. بل وزاد البعض في وعوده فوعد بتحرير فلسطين وتحقيق وحدة الأمة العربية وبسط العدالة الاقتصادية والاجتماعية. لكن ما إن مرّت عقود قليلة حتى تبيّن عجز الدولة العربية الحديثة عن الوفاء بوعودها. فلا تحرير فلسطين ولا الوحدة ولا حريّة الأوطان ولا تحديث المجتمعات ولا تنمية الاقتصاد ولا إقامة الحكم العادل النّزيه تحقّقت على يد تلك الدولة، وإنّما حلّّّّّّ مكان ذلك بناء دولة تسلطية باطشة أمنيّة، هدفها حماية النخبة الحاكمة، وقمع المجتمع وتهميشه وإبقاؤه ضعيفاً متصارعاً، غير قادر على موازنة قوة الدولة، ولا على منافسة الأقلية الحاكمة، ولا على حماية الفرد من جبروت الدولة. ولم يؤدِّ تهميش المجتمع إلى زيادة في قوة الدولة، بل على العكس من ذلك، أصبحت الدولة منكشفة أمام أطماع القوى الاستعمارية الخارجية وأمام هجمة مؤسسات العولمة الرأسمالية المتوحّشة وأمام كل طامع فاسد في الداخل. نحن إذن أمام وضع بائس للدولة والمجتمع. فلا الدولة تستطيع حماية المجتمع، ولا المجتمع راغب وقادر على حماية الدولة. إنها حلقة جهنميّة تنذر بإمكانية تفكّكك الدول العربية واحدة بعد الأخرى، وذلك تمهيداً لزوال مجتمعاتها أو تراجعها إلى مستوى البدائيّة أو ما دونها. إذا كانت سلطات الدولة العربية تعتقد بأن حلّ تلك الإشكالية المأساوية يكمن في تنازلات بسيطة متواضعة، من قبيل السّماح بديمقراطية عرجاء، مع وقف تنفيذ أغلب أسسها، وإمكانية انتكاستها في أية لحظة... فإنها ترتكب حماقة العمر. وفي الوقت نفسه إذا كانت مؤسسات المجتمع المدني تعتقد أن حلّ تلك المأساة يكمن في إضعاف الدولة وتهميش دورها التحديثي والتنموي، فإنها هي الأخرى ترتكب خطأ فادحاً. هناك حاجة للاثنين معاً، ووسيلة حلّ الإشكالية هي الديمقراطية الحقيقية غير المزيّفة، بشقّيها السياسي والاقتصادي- الاجتماعي. مثل هذه الديمقراطية ستعالج زيف وبؤس الممارسة السياسية الاستبدادية من قبل الدولة، وستجعل تعامل مكونات المجتمع مع بعضها بعضاً ومع الدولة، تعاملاً متمدِّناً سلمياً وعقلانياً. الدولة العربية في العراق والصومال ولبنان وفلسطين والسودان... انشغلت بنفسها ونسيت مجتمعها، والمجتمع العربي في هذه الدول سمح بتلك الممارسة، وهما يواجهان اليوم مصيراً بائساً دون أن يستطيعا إنقاذ أحدهما الآخر، ولن تجدي الهلوسات الأميركية ولا محاولات العرب الكلامية العاجزة، في تصحيح ذلك التاريخ المفجع لتلك العلاقة المحزنة بين الدولة العربية المتجبِّرة ومجتمعها المسحوق. د. علي محمد فخرو