سيظل الجدل مثاراً لفترة طويلة حول قرار تنفيذ حكم الإعدام في حق صدام حسين فجر 30 ديسمبر الماضي، والذي وافق أول أيام عيد الأضحى المبارك. وأهم ما في هذا الجدل تركيزه على تحديد المسؤولية الأولى عن ذلك القرار؛ هل تقع على رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي ورجاله في الحكومة وأجهزة الأمن, أم يتحملها الأميركيون الذين مازالوا يحتلون العراق من الناحية الفعلية؟ يدل النمط السائد للجدل العربي حول هذا النوع من الموضوعات، على استحالة الوصول إلى نتيجة فيه, لأن معظم المتجادلين لا يبحثون عن الحقيقة ولا يعترفون بها حتى إذا صادفوها في طريقهم, وإنما يتمسكون بمواقفهم المسبقة التي يدخلون بها حلبة الجدل، فلا يغادرونها إلا حين تجذبهم حلبة أخرى من النوع نفسه الذي لا مجال فيه للحجة والمنطق ولا احترام للفرق بين كلام موثق وآخر يُلقى على عواهنه. لذلك لم يؤثر في هذا الجدل إعلان مسؤولين أميركيين أنهم حاولوا إرجاء تنفيذ الحكم لمدة 15 يوماً, ولكن رئيس الوزراء العراقي أصر على فجر الثلاثين من ديسمبر الماضي. وإذا تابعنا مسار هذا الجدل خلال الأيام الماضية, نجد ثلاثة اتجاهات رئيسية: أولها لا يرى فرقاً بين حكام العراق الحاليين, أو الكثير منهم, وسادة واشنطن. وهذا اتجاه تقليدي في الفكر العربي ينزع إلى العمومية والتبسيط, وينفر من قراءة التفاصيل ويضنيه التعمق أو حتى النفاذ إلى ما تحت السطح بقليل. وأكثر ما يؤخذ على هذا الاتجاه إغفاله أن الفصيل السياسي العراقي الذي سجل حضوراً قويا في مشهد الإعدام هو التيار الصدري الذي يحمله الأميركيون مسؤولية وفيرة عن تصاعد العنف ويحاولون إقناع المالكي المتحالف معه بتغيير موقفه تجاهه. فالصدريون الذين سبّوا صدام ولعنوه لحظة صعوده إلى المشنقة, وحتى تعليقه عليها, تسببوا في حرج شديد للأميركيين حتى أمام الرأي العام في بلادهم. فالقاعدة التي يؤمن بها الأميركي, وكل مؤيد لحكم القانون, هي أن أحكام القضاء واجبة التنفيذ دون أدنى زيادة عليها. فإذا كان الحكم بالإعدام فلا يجوز أن يضاف إليه شتم أو إهانة من أي نوع, وإلا شاب تنفيذه البطلان. وكان أحد أساتذة القانون العظام يشرح لطلابه هذه القاعدة الحقوقية بطريقة طريفة تعبر عن حبه للفكاهة قائلاً إنه إذا كان الحكم بالإعدام أو بالسجن مدى الحياة فليكن كذلك فقط وليس إعداما" أو سجناً وفوقه "شلوت" أي ركلة قدم. أما الاتجاهان الآخران إزاء المسؤولية عن إعدام صدام في مناسبة دينية جليلة، فيتهِم أحدُهما حكام العراق ويوجه الآخر الاتهام إلى الأميركيين. ويركز من يحملون المسؤولية لحكومة المالكي وأجهزتها على الصراع المذهبي المتصاعد في داخل العراق. وذهب بعضهم إلى أبعد مدى في هذا المجال, فقالوا إن (إعدام صدام في يوم حرام هو "عيدية" المالكي للشيعة). غير أن المعتدلين من أنصار هذا الاتجاه في فهم مغزى تنفيذ الإعدام فجر يوم العيد فيقدمون تفسيرين أحدهما يركز على النزعة الانتقامية التي تعمي المصابين بها عن إدراك عواقب بعض أفعالهم, وينطلق الآخر من أزمة حكومة المالكي التي تدفعه لطرق أي باب مهما يكن شاذاً للبحث عن مخرج منها. والتفسير, هنا, أن التعجيل بإعدام صدام, وبهذه الطريقة الصادمة, يمكن أن يضعف معنويات أنصاره ممن يحملون سلاحاً ويدفعهم إلى الالتحاق بالعملية السياسية حين يطرح هو مبادرته الجديدة للمصالحة الوطنية. أما الاتجاه الذي يحمّل الأميركيين المسؤولية عن إعدام صدام في يوم العيد ففيه, بدوره, تنوع في التفسيرات. وينطوي بعض هذه التفسيرات على مبالغات مفهومة؛ مثل التفسير الذي لا يرى أي فرق بين دور الأميركيين في العراق اليوم, وما كان عليه عقب الغزو مباشرة, ولا يعترف بأن أي تغيير حدث بموجب ما أطلق عليه نقل السيادة للعراقيين منتصف عام 2004. ولذلك يذهب أصحاب هذا التفسير إلى أن قرار تنفيذ إعدام صدام لا يمكن إلا أن يصدر عن القادة العسكريين الأميركيين في العراق أو السفير الأميركي زلماي خليلزاد. ولكن ثمة أيضاً من يرون أن الرئيس بوش أراد أن يقدم "هدية" إلى الرأي العام الأميريكي في نهاية العام الذي شهد تكريس فشل إدارته في العراق, والحد من الانتقادات الموجهة ضدها خصوصاً في وقت شهد سقوط الجندي رقم ثلاثة آلاف قتيل هناك. ومن أكثر التفسيرات نزقاً, في إطار هذا الاتجاه, التفسير الذي رأى أصحابه أن واشنطن أرادت توجيه رسالة تهديد بالغة الحدة للحكام العرب مفادها أن يقبلوا إملاءاتها دون أدنى اعتراض حتى لا يكون مصيرهم مشابهاً! ووجه النزق في هذا التفسير هو أنه يقوم على مشابهة لا أساس لها، لأن صدام ليس كمثله حاكم في هذا العصر, وليس فقط في بلاد العرب الآن. فالوحيد الذي يجوز عقد مقارنة بينه وبين صدام هو زعيم الخمير الحمر بول بوت. كما أن أميركا الآن ليست في وارد تهديد أي من الحكام العرب لأنها- على العكس- توشك أن تستجديهم لمساعدتها في الخروج من "المستنقع" العراقي. وربما كان ممكناً تصور احتمال أن تصدر عنها مثل هذه الرسالة لو أنها نجحت في العراق وتمكنت من إقامة الديموقراطية التي كانت ترفع شعارها وتعتبرها مدخلها إلى تغيير المنطقة. أما وقد فشلت في ذلك, واستبد بها الفشل, فما عاد في امكانها أن تروع أحداً، بمن في ذلك حكام إيران الذين يتحدونها جهاراً نهاراً وهى لا تملك مواجهة هذا التحدي بسبب تورطها في العراق. وهناك, كذلك, تفسير آخر ضمن إطار الاتجاه الذي يحمّل الأميركيين المسؤولية الأولى. ويذهب هذا التفسير إلى أن إدارة بوش أرادت التخلص من صدام قبل أن تقود محاكماته التي كانت باقية إلى كشف ما تريد إخفاءه بشأن علاقاته مع الولايات المتحدة خلال الفترة التي خاض فيها الحرب مع إيران. ولهذا التفسير الأخير وجاهته بالفعل. ولكنه لا يكفي للجزم بأن قرار تنفيذ حكم الإعدام في مطلع عيد الأضحى المبارك، أميركي في المقام الأول، لسبب بسيط للغاية, وهو أن تنفيذ الحكم بعيد هذه المناسبة لم يكن ليمثل أي تهديد لواشنطن في هذا المجال. فما كان الحديث عن علاقاته السابقة معها ليطرح قبل عدة شهور. وفى ضوء هذا كله, لابد أن يكون توقيت إعدام صدام مسؤولية مشتركة بين كل من المالكي وبوش ورجالهما, ولكن مع مسؤولية أولى ورئيسة تقع على عاتق رئيس الوزراء العراقي وأنصاره. فقد خضع المالكي لضغوط قوى شيعية مغرقة في تطرفها المذهبي ومشبعة بروح الانتقام العمياء إلى حد أنه لم يستطع إبعاد أتباع هذه القوى عن تنفيذ الإعدام, والذي بدا والحال هكذا ثأراً سياسياً- مذهبياً- لا صلة له بحق أو قانون أو عدل. وكشف فيديو الهاتف المحمول الذي سجل عملية الإعدام هذه النزعة الثأرية وأكد عمق تغلغل الميليشيات المذهبية في أجهزة الأمن العراقية, وسجل فضيحة كبرى, وصب زيتاً وفيراً على نار الحقد المذهبي قد يصعب إطفاؤها. والمسؤولية الأولى في هذا كله تقع على عاتق الحكومة العراقية التي ظهرت في حالة بؤس وهزال، خاصة إذا ثبت أنها شجعت وجود عناصر ميليشياوية باغية بين شهود عملية الإعدام, وهي تعرف أنهم سيرتكبون خطيئة أخرى تضاف إلى توقيت التنفيذ, وهي إهانة صدام على حبل المشنقة والهتاف ضده بما يظهر الحقد المذهبي في أبشع صوره. ولا مصلحة للإدارة الأميركية ورجالها في العراق في مثل هذه الممارسة الوحشية تحديداً، حتى إذا كانت بعض ممارساتهم الأخرى في العراق لا تخلو من همجية. ومن الأسئلة التي لن تجد إجابة في الغالب، السؤال عما إذا كان المالكي حصل على فتوى دينية بجواز إعدام صدام في اليوم الذي اعتبره الشيعة وقفة العيد وليس أول أيامه, ومن الذي أفتى بذلك إذا كانت هناك مثل هذه الفتوى. هذه أيضاً مسألة عراقية لا دخل فيها للأميركيين الذين تبدو مسؤوليتهم سابقة على تنفيذ حكم الإعدام؛ فهم مسؤولون, على الأرجح, عن قرار ترتيب محاكمات صدام زمنياً لتأتي قضية الدجيل في البداية رغم أنها الأصغر والأقل أهمية بين جرائمه. فهذه القضية آمنة بالنسبة لواشنطن التي كانت تخشى في الغالب القضايا المتعلقة بجرائم صدام ضد الأكراد- خصوصاً في حلبجة- لأنها تتضمن اتهامه باستخدام أسلحة كيماوية كانت إدارة ريغان هي التي ساعدته في الحصول عليها, بل كان وزير الدفاع الذي قاد الحرب على صدام (دونالد رامسفيلد) هو حلقة الاتصال بينه وبين الرئيس الأميركي حينئذ. أرادت واشنطن التخلص من صدام بسرعة ليأخذ أسرار علاقاته معها إلى قبره. وهذه هي مسؤوليتها الكاملة التي أدت إلى الحكم عليه بالإعدام بسبب أصغر جرائمه, وقبل أن تتحمل الحكومة العراقية الحالية المسؤولية الكاملة تقريباً- بدورها- عن توقيت تنفيذ هذا الحكم. فالمسؤولية موزعة إذن, بين إدارة بوش وحكومة المالكي، ولكن على سبيل التوالي وليس التزامن.