كان من المنطقي جداً أن ترى المستشار الأجنبي بين ردهات المكاتب الحكومية، يتجول ويدلو بدلوه في شتى المجالات في منتصف السبعينيات، ففي ذلك الوقت كانت الدولة في بداية نهضتها وصحوها بعد اتحاد عزز من تماسكها وارتقائها في سلم النجاح. وبعد ذلك كان من المنطقي أيضاً أن يتضاءل عدد هؤلاء، لأن المواطن كان قد تعلم بما فيه الكفاية لتكون عملية الإحلال واجبة وانسيابية وأساسية في تواصل مسيرة التنمية على كافة الأصعدة. واليوم، وبعد كل هذه السنوات، نرى هؤلاء قد عادوا بقضِّهم وقضيضهم في الوزارات والدوائر المحلية والجامعات، وكأن كل انجازات واستثمارات الوطن في المواطن باءت بالفشل، وكأن هناك خطة قائمة على تهميش المواطن وإبعاده عن دائرة القرار والفعل، وليكون الفعل ورده للمستشار الذي لا يعرف دهاليز القضايا المعلقة المنوطة به، كما يفعل المواطن. فهؤلاء المستشارون قد جاءوا بفكر أوطانهم وكأنهم النماذج الناجحة التي لا بد من تقليدها دون إبداع ودون نضج في التطبيق ودون عمق في الدراسة والإدراك. وكأن موضة السبعينيات قد عادت بقوة ليس على مستوى الأزياء وقصات الشعر وأدوات الزينة، بل امتدت إلى أخطر وأبعد من هذا، وكأن كل ما تحقق رمال ذرتها الرياح ذات ليل صيفي صامت. فما زال الإعجاب بالأجنبي قائما رغم عيوبه ورغم كل القضايا المالية المتراكمة ضد الكثيرين منهم، ورغم أن البديل المواطن متوفر وأفضل بكثير حتى وإن روّج البعض عكس ذلك. والأخطر، أننا صرنا نتبعهم حتى في فكرهم وعاداتهم وقوانينهم، رغم أننا لنا هويتنا وشكلنا وأخلاقنا وتميزنا عنهم في أفضلية بلا شك في الكثير من الجوانب الحياتية. فما زالت الأسرة أولوية، وما زال الحب دفئا نبحث عنه، وما زالت القيم مؤشرا أخلاقيا أساسيا في أحكامنا الصادرة في شؤون حياتنا العديدة، وما زلنا قادرين على اجتراح حلول للمستحيل، وتحويل الصحراء الحالمة إلى واحة خضراء غنية يهفو إليها العالم بحثاً عن هذا الدفء وهذه القيم وهذا التسامي الأخلاقي الجميل، الذي قلما تجده في عالم اليوم. والسؤال الذي لابد أن يجيب عليه بعض الوزراء ممن بحثوا عن أمثال هؤلاء: أي انجاز تم تحقيقه على يد هؤلاء الخبراء، وهل كان نجاح هؤلاء باهراً لدرجة التمسك بهم والبحث عن مزيد منهم؟ أشك في أن هناك إجابة جاهزة، هناك فقط صمت وانتظار للذي لا يأتي. المطلب الأهم هو الاعتداد بالذات والإيمان المطلق بقدرات أبناء هذه الدولة المميزة دائماً وأن أحداً لن يداوي جرحك مثل يدك وملح بحرك. كم هو مؤسف هذا الهمّ وهذا الوهم وهذا التراجع الخطير.