تمثل الحالة العراقية الراهنة -في مقدماتها ونتائجها- نموذجاً مثالياً للرهانات الطائفية المتعاظمة في جلّ العالم العربي، وإن البحث في هذه الحالة ليسمح بوضع اليد على الآليات الحاسمة، التي حكمت وتحكم عملية التحول من نظام أمني إلى حُطام طائفي. لقد حدث ذلك فعلاً في العراق، وإمكاناتُ حدوثه في بلدان عربية أخرى قائمة، طالما استمرت الأوضاع فيها على قاعدة أنها "استثنائية"، أي محكومة بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية. فلقد دلّل النظام الأمني في العراق على أن الطواقم العليا، التي تحكمه وتُحكم القبضة عليه باسم "دستور" تضعه هي في ضوء أخطر مبدأ اغتصابي إقصائي على الصعيد السياسي هو "الحزب قائد الدولة والمجتمع"، لا تستطيع -حتى لو أرادت- أن تقف في وجه زحْف المصالح الكبرى والمتوسطة لفئات وطوائف وأفراد تغدو شيئاً فشيئاً سيد الموقف. ولما كان النظام الأمني المذكور ذا بنية سياسية وإيديولوجية وأمنية مغلقة، فإن المجتمع الذي يخضع له يكفّ عن أن يعبّر عن مشكلاته وطموحاته وصراعاته وخلافاته بكيفية صريحة وشفافة ومضبوطة وقابلة للمراقبة والمساءلة. إنه -حينئذٍ- يبحث عن نوافذ وأخاديد ونتوءات وتُرع، أو يُنتج ويلفِّق شيئاً من هذا القبيل، ليعبِّر عن تلك المشكلات والطموحات... إلخ. وثمة مبدأ ذو أهمية خاصة بالنسبة إلى ما نحن بصدده، وهو أن دولة وطنية مدنية لم تنشأ في العالم العربي بكل تجلياته، ما عدا مقدمات وإرهاصات أولية لن نلاحظها أو لاحظناها هنا وهناك من أقطار العالم العربي، وتتأتّى على هذا المبدأ نتيجة خطيرة تقوم على أن العالم المذكور لم يدخل عصر الحداثة الوطنية المدنية، ومن ثم عصر التكتّل القومي الإقليمي والدولي. وثمة إشارة منهجية حاسمة تُفصح عن نفسها ها هنا وتمتلك مغزى عميقاً بالنسبة إلى مصائر المجتمع بوصفه كلاً، تلك هي: إن سلطات النظام الأمني، الذي اصطلحنا عليه في سياق آخر بمصطلح "الدولة الأمنية"، ستبقى -في حالات غالبة- قادرة على الحفاظ علي وحدة المجتمع الذي تحكمه، إنما من موقع القوى الاجتماعية التي حققت مكاسب مادية وسياسية عظمى. ذلك أن وحدة مصالح هذه القوى يجري تسويقها من حيث هي وحدة المجتمع، أو حتى بمثابتها الوحدة الوطنية في هذا الأخير. إذاً، إذا استمر النظام الأمني في سلطته، فإن من معاني ذلك أنه يقوم على طيف واسع من الفاسدين والمُفسدين والعُتاة ورجال الأجهزة الأمنية وذوي المصالح المتصلة بعلاقات أسرية وعائلية وعشائرية وطائفية وإثنية. لكن ما تراهن عليه النظم الأمنية، يمكن أن تكون الأمور الثلاثة التالية في مقدمته: 1- إنها تسعى إلى اللعب على الغزاة المحتملين -وهم هنا الأميركيون- وذلك بتقديم تنازلات وتطمينات ومساومات لهم، وكذلك يداً بيد مع تسويق إعلامي يقوم على القول إن البلد المعني هنا، مثلما كان في العراق وما هو كائن في مصر وغيرهما من بلدان عربية، يمثل منطقة استراتيجية لا يمكن حلّ قضايا الشرق الأوسط بل العالم بمعزل عنها. 2- إنها تُنتج إعلاماً إيديولوجياً زائفاً يقوم على إقناع الدواخل العربية (الشعبية) بأن أنظمتها، التي تحكمها، هي وحدها الوطنية والقومية، مِمّا يعني أنها "الطّود الأخير" في المعركة ضد الاستعمار والإمبريالية والعولمة...إلخ. 3- أما الأمر الثالث -وهو ذو أبعاد أخطبوطية مدمرة- فيقوم على النظر إلى الفتنة أو الحرب الطائفية في القطر العربي المعنِي بمثابتها الحلّ الرادع الأخير. كيف ذلك؟ يأتي الجواب وفق التكوين الطائفي والمذهبي المهيمن في هذا البلد أو ذاك، وذلك بتأليب الطوائف على بعضها ونصرة واحدة على الأخريات، كما حدث في العراق عبر المزيّات التي تُقدّم لواحدة دون أخواتها، ونشر الوعي الطائفي عبر الحجْر على الوعي الوطني المدني، وغالباً ما يتم ذلك عن طريق تخويف الطوائف بعضها من بعض، والتلويح بانفجار حروب طائفية، إذا ما حاول الوطنيون البحث عن بديل وطني مدني. إن الرهان على صراعات طائفية في المجتمعات العربية في سياق تلفيق أحداث طائفية هنا وهناك، وباللجوء إلى سياسات الفساد والإفساد والتمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات وعلى أساس انتماءاتهم الطائفية، كما يجري الآن في أكثر من قطر عربي، إن ذلك جميعاً إنْ هو إلا ولوج إلى عالم يمكن أن يتصدع على رؤوس الجميع. وثمة، أخيراً، ملاحظة تُفصح عن نفسها في أن النظم التي تضع في حسبانها الرهان على مثل تلك الصراعات الطائفية للاستمرار في هيمنتها، يمكن أن تتصدع مع أول اختراق يأتي من الخارج كما من الداخل. ذلك أن ما يُعتقد أنه في "حال الكمال الوطني" ضمن نظام أمني، يمكن أن يخيّب آمال الجميع، حين يتفكك شذر مذر، بعد أن تنحسر قبضة هذا النظام ويصبح الغزاة أسياد الموقف الحطامي.