مع انزلاق العراق إلى هاوية الفوضى، وقرار بوش بنشر 20 ألف جندي أميركي إضافي هناك، يستحق الأمر منا أن نحاول الإجابة على سؤال أكبر: لماذا نتخبط دائماً في اختيار سياساتنا الخارجية؟ لست أنا وحدي من يطرح هذا السؤال المُحرج، بل يشاركني فيه كثيرون منهم "شيرين عبادي" المحامية الإيرانية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، التي زارتني منذ أيام، وعبَّرت عن نفس الفكرة عندما قالت لي: "إنه مما يحيِّرني دائماً أن تكون الولايات المتحدة على الرغم من إنجازاتها العلمية الهائلة، على هذه الدرجة من قِصر النظر في مجال السياسة الخارجية". نعم، إنه لأمر يدعو للرثاء في الحقيقة أن نتمكن من الهبوط على سطح القمر بسلام ولا نتمكن من الانتشار في محافظة الأنبار، وأن تكون لدينا القدرة على رؤية أصغر شيء في أقصى بقاع الأرض، ولا تكون لدينا القدرة على إدراك أن العراقيين يمقتوننا. والمشكلة هنا لا تقتصر على اليمينيين المنتمين إلى الحزب "الجمهوري" فحسب، فـ"الديمقراطيون" أيضاً سبق لهم أن أغرقونا في مستنقع فيتنام، وهو ما يسوغ لنا القول إن قصر النظر في السياسة الخارجية هو السمة المميزة للولايات المتحدة بصرف النظر عن الحزب الذي يحكم. والعراق هو المثال الحالي البارز على تلك الحقيقة. فلقد غزونا تلك الدولة معتقدين أننا سنجد حلفاء موالين للولايات المتحدة، ونفطاً رخيصاً، وقواعد عسكرية طويلة الأمد، وامتناناً من قبل العراقيين الذين حررناهم من طغيان صدام، ولكن الذي حدث هو أننا نحن من هم خضنا الحرب في العراق، وأن إيران هي التي كسبتها. وعلى ذكر إيران دعونا نتذكر أننا ساعدنا عام 1953 على الإطاحة بحكومة الدكتور محمد مصدق المنتخبة ديمقراطياً لإحلال حكومة أكثر موالاة لأميركا محلها، فكانت النتيجة أننا تسببنا في حدوث توتر أدى في نهاية المطاف إلى اندلاع الثورة الإيرانية وصعود الملالي من ذوي الأحلام النووية. فلولا خطل السياسات التي اتبعناها في الماضي في إيران لكان من الممكن جداً أن تكون الحكومة الحالية القائمة في طهران موالية لأميركا. ولكن ما هو السبب الذي يدفعنا في غالبية الأحيان إلى العمل ضد مصالحنا طويلة الأمد؟ هناك في ظني سببان على الأقل: الأول، أن القوى الكبرى غالباً ما تكون خطواتها ثقيلة ومتعثرة وكثيراً ما تدوس على أقدام الآخرين، وتثير حفيظتهم واستياءهم، وتحل ما يعترض طريقها من مشكلات باستخدام القوة العسكرية لأنها تمتلك هذه القوة ولابد لها أن تقوم باستخدامها. في السجلات التي كتبها المؤرخ اليوناني القديم "ثيوكيديدس" منذ ما يزيد على 2400 عام وردت عبارة بالغة الدلالة تقول "إن أثينا قد قررت محو مدينة ميلوس من الوجود، فقط لأنها تستطيع ذلك". لقد حدث شيء مثل هذا عام 1955 عندما كانت بريطانيا هي اللاعب الرئيسي في الشرق الأوسط وقامت بتكوين "حلف بغداد"، الذي كان يرمي إلى اتخاذ ترتيبات عسكرية معينة لحماية المصالح البريطانية في الشرق الأوسط. بدلاً من ذلك أدى الحلف إلى إثارة ثائرة القوميين العرب وتعزيز المشاعر المعادية لبريطانيا، ما أدى في نهاية المطاف إلى ثورة العراق عام 1958 التي أطاحت بالنظام الملكي ومهدت في النهاية لصعود صدام حسين. أما السبب الثاني، فهو يختص بالولايات المتحدة، ويتمثل في أننا لا نفهم العالم. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تدين بوجودها لبعض القوميين من مثيري المتاعب مثل "سام آدامز"، إلا أنها غير قادرة على إدراك سبب الجاذبية التي يتمتع بها القوميون المثيرون للمتاعب في الدول الأخرى، وهو ما يجعلنا نقوم دون أن ننتبه بتمكين أعدائنا وتقويتهم. ولكن ما العلاقة بين كل ذلك... وبين ما يحدث في العراق؟ مرة أخرى يسعى البيت الأبيض إلى حلول عسكرية يحتمل أن ترتد إلى صدورنا وتسبب لنا الأذى. إن إرسال المزيد من الجنود الأميركيين الشبان إلى تلك الدوامة الهائلة من الدمار والقتل قد يؤدي إلى ثلاث نتائج: إثارة ثائرة القوميين العراقيين، وتعزيز وضع المتطرفين الشيعة والسُّنة على حد سواء، وتعرض المزيد من الجنود الأميركيين الشبان للقتل. إن دراسة عسكرية أميركية أجريت عام 1999 وتمت إزالة صفة السرية عنها مؤخراً توصلت إلى نتيجة في ذلك الوقت وهي أن أميركا حتى لو وضعت 400 ألف جندي على الأرض في العراق فإنها لن تكون قادرة على تحقيق الاستقرار في ذلك البلد في مرحلة ما بعد صدام حسين. وشددت تلك الدراسة على أهمية الدبلوماسية في التعامل مع جيران العراق. وما يحدث الآن هو أن بوش يتحرك في الاتجاه المعاكس، والشيء المقلق للغاية هو أنه يلمِّح إلى أن الاشتباك المناسب مع سوريا وإيران ليس دبلوماسياً كما أوصت مجموعة "دراسة العراق"، ولكنه عسكري. إننا نمضي بأقصى سرعة ودون انتباه على طريق قد يؤدي بنا في النهاية إلى توجيه ضربات عسكرية لإيران، وهو أمر لو حدث فسيكون خطيراً للغاية! إذن ما هو تصورنا للاستراتيجية الأفضل؟ إنها استراتيجية فيها الكثير من الشبه مع تلك التي اقترحتها مجموعة "دراسة العراق"، أي استراتيجية تشدد على التعامل مع الجيران وإعطاء دفعة قوية لتحقيق تسويات سياسية داخل العراق، واتخاذ خطوات للانسحاب العسكري من هناك وبذل جهود مكثفة لتحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. هل يمكن لهذه الاستراتيجية أن تنجح في العراق؟ لا أحد يدري، ولكن تلك الاستراتيجية التي يجب أن تكون معتمدة من قبل الحزبين الرئيسيين يمكن أن تساعد الولايات المتحدة في النهاية على تضميد بعض الجراح النازفة التي تعاني منها الآن. ـــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ـــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"