في معسكر "شيركول" للاجئين في إثيوبيا، يبدو "دومنيك كور"، مواطناً طبق الأصل من قبيلة الدينكا السودانية. فهو مثل معظم رجال قبيلته، قد زين جبينه بالوشم والنقوش المعروفة لدى قبيلة "الدينكا"، وكذلك نزعت أسنانه الأربع الأمامية في الصف السفلي من فكه، ما يجعله ألثغ بعض الشيء في مخارج حروفه وأصواته. ومثلما هو متوقع من غالبية الرجال المنتمين إلى قبيلة "الدينكا" في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، فقد انضم "كور" إلى المقاومة المسلحة، ضمن "الحركة الشعبية" و"الجيش الشعبي لتحرير السودان"، بقيادة الزعيم الراحل "جون قرنق دو مبيور"، التي خاضت حرباً أهلية ضد الحكومة المركزية في الخرطوم. وقد كانت مشاركة "كور" في تلك الحرب التي اندلعت عام 1983، لمدة تسعة أعوام، صادرة عن قناعة ذاتية بأن عليه أن يدافع عن نفسه وأهله، ضد الطغيان السياسي والثقافي لحكومة الشمال عليهم. غير أنه بدأ يتململ شيئاً فشيئاً، إذ لم ترق له طريقة معاملة وحدته التي كان يعمل فيها لجنودها وأفرادها. ولما لم تكن داخل الحركة المسلحة، آلية رسمية يمكنه بواسطتها تقديم استقالته منها، فقد لجأ للفرار منها حيث انتهى به الأمر إلى الخرطوم. وهناك أقام في أحد أحيائها، حيث عمل في مجال البناء والإنشاءات، وتمكن من الزواج من حب طفولته الباكرة، وهي فتاة "دينكاوية" من قرية "مادول". لكنه وبحلول عام 2002، اضطر لعبور الحدود السودانية الإثيوبية، حيث انتهى به المقام هنا في معسكر "شيركول" للاجئين. وبين هذا وذاك استمرت الحرب الأهلية التي حصدت أرواح مليوني سوداني من الجانبين، خلال أعوامها العشرين. غير أن المجتمع الدولي تمكن في نهاية الأمر من إضفاء شرعية على "الجيش الشعبي لتحرير السودان"، وذلك باعترافه بضرورة مشاركة ذلك الجيش في عملية السلام السودانية. وقد توجت تلك الخطوة بالتوقيع على اتفاق سلام شامل بين حكومة الخرطوم و"الجيش الشعبي لتحرير السودان"، في التاسع من يناير من عام 2005. وقد ِأثنت واشنطن كثيراً على ذلك الاتفاق وباركته. وعلى إثر إحلال السلام، فها هم الأربعة ملايين ونصف، من اللاجئين إما داخل السودان أو خارجه، بسبب النزاع المسلح والحرب الأهلية، بدأوا يسلكون طريق العودة إلى ديارهم وقراهم التي اضطروا للنزوح منها في جنوب السودان. وبفعل تأثير هذه العودة الطوعية الواسعة للاجئي الحرب، فقد علقت هنا أيضاً في مخيم "شيرلوك" للاجئين، البوسترات التي توضح ترتيبات التسوية السياسية والعسكرية للنزاع بين حكومة الخرطوم و"الجيش الشعبي لتحرير السودان". وبالنتيجة، فقد عادت إلى ديارها مجموعة كبيرة من أفراد قبيلة "أودوك" التي كانت تقيم هنا في المخيم، في شهر ديسمبر الماضي. ولكن عقبة ما لا تزال تحول دون عودة "كور" وعائلته إلى قريتهم. وتتلخص هذه العقبة في مخاوف "كور" من أن يعتبره بعض مقاتلي "الجيش الشعبي لتحرير السودان" جباناً وهارباً من ميدان القتال، فلا يتورعون عن الثأر منه ومعاقبته. وبالنظر إلى الاضطرابات التي لا تزال تضرب الجزء الجنوبي من البلاد، فإنه يخشى من أن يوقع نفسه في مأزق يهدد حياته، فيما لو عاد إلى دياره. ولاشك أن هذه المخاوف في محلها، إذا ما أخذنا في الاعتبار المصاعب الماثلة حتى الآن، فيما يتعلق بإنشاء حكومة الجنوب لقوة أمنية شرطية يعول عليها في حفظ الأمن والسلامة العامة للمواطنين. يجدر بالذكر أن هذه المخاوف ليست قاصرة على "كور" وحده، وإنما هناك في المخيم نفسه من يشاطره إياها من بين المقاتلين السابقين في جيش "الحركة". ولذلك فقد أدرج اسم "كور" وعائلته من بين المرشحين لإعادة التوطين في دولة ثالثة، وقدم المفوض السامي لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة، اسمه بين المقترحين لإعادة التوطين في الولايات المتحدة الأميركية. وبعد عدة أشهر من تقديم طلبه، تلقى "كور" رداً من وزارة الأمن القومي الأميركي، أطلعني عليه داخل بيته المبني من الطين والقش، في مخيم اللاجئين المذكور. وجاء الرد ترحيباً بهجرة زوجته وأطفاله الستة. أما بالنسبة له هو شخصياً، فقد رفض طلب دخوله إلى الولايات المتحدة الأميركية! وقرأت في الرد الذي تلقاه "كور" ما يلي: "نطلعك على أنه غير مسموح لك بدخول الولايات المتحدة الأميركية، وفقاً للمادة 12 من قانون الهجرة والجنسية الأميركية". والذي أعلمه عن هذه المادة، ولا يعلمه "كور"، أنها تنص على الآتي: "يحرم من الدخول إلى الولايات المتحدة الأميركية، كل من سبقت له المشاركة في أعمال وأنشطة إرهابية". ومن المفارقة وسخرية الصدف أن تاريخ تلقي "كور" لذلك الرد الذي وصمه بالإرهاب، هو 20 يوليو الماضي، وهو نفسه التاريخ الذي استقبل فيه الرئيس الأميركي جورج بوش، زعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان"، ورئيس جنوب السودان، والنائب الأول لرئيس جمهورية السودان، "سيلفا كير"! وليست حالة "كور" التي استعرضتها وأناقشها هنا، حالة معزولة أو استثنائية. فخلال الشهور الستة الماضية، التقيت بمجموعات عديدة من اللاجئين البورميين في تايلاند وماليزيا، ومجموعات من قبائل "الهمونج" في تايلاند، وكذلك بلاجئين إرتريين في إثيوبيا، وقد علقت طلباتهم جميعاً، بحجة علاقتهم السابقة بالنشاط الإرهابي. ومما يثير الضيق والضجر والسخرية في آنٍ، أن معظم هؤلاء الذين علقت طلباتهم بحجة النشاط الإرهابي، هم في الواقع أبطال وطنيون ومحاربون من أجل الحرية والديمقراطية ضد الأنظمة الديكتاتورية الشمولية القابضة في بلدانهم. بل ما أكثر الحالات التي حاربت فيها هذه الجماعات، بإيعاز واستقطاب أميركي لمقاومة تلك الأنظمة. وهنا ما أبرز مثال قبائل "الهمونج"، ومجموعات "المونتاجنارد" التي حاربت معنا في فيتنام. وقد حاربت هاتان المجموعتان بالذات، تحت قيادة وتمويل مباشرين من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. ومع ذلك، فقد حرم محاربو هذه الجماعات من الدخول إلى أميركا بحجة نشاطهم الإرهابي السابق! والسبب وراء هذا التعامل الغريب مع هؤلاء، هو تبني الولايات المتحدة لتعريف قانوني جديد فضفاض لمفهوم "النشاط الإرهابي" عقب هجمات 11/9. وما لم يجر تعديل جوهري على صياغة وتحديد هذا المفهوم، فإن ذلك يعني استمرار حرمان آلاف اللاجئين والمحاربين القدامى من أجل الحرية والديمقراطية، من الدخول والإقامة في الولايات المتحدة الأميركية. ـــــــــــــــــــــــــــ مستشارة سياسات أولى بـ"لجنة الإنقاذ الدولية" ــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"