العلاقات العربية- الإيرانية في الوقت الراهن تزداد التباساً وتحيطها الشكوك من كل جانب. وكثير من القضايا الملحة إقليمياً مُختلف عليه بين العرب وإيران, مع استثناء التوافق السوري- الإيراني على بعض منها. والدور الإيراني في العراق, ولبنان, وفلسطين، والتأثير الإيراني في مناطق أخرى يثير التباسات أخرى وقدراً غير قليل من الشكوك والخشية من أجندة إيران ومدى تعدِّيها على المصالح العربية. يُضاف إلى ذلك مسألة الاختلاف المذهبي بين إيران وجوارها العربي، الذي لا يني يُراكم جرعات إضافية من الشكوك بين الطرفين, خاصة في مناخ أصوليات دينية وسياسية متطرفة، ترتكس إلى أسوأ التفسيرات الدينية في النظرة إلى "الآخر" المختلف مذهبياً وطائفياً. إيران دولة كبيرة في المنطقة ولها مصالحها القومية وطموحاتها, وهذه حقيقة لا يمكن تجاوزها. لكن تلك المصالح والطموحات (وعلى رأسها امتلاك التكنولوجيا النووية والسلاح النووي, والبحث عن دور إقليمي راسخ في شؤون المنطقة)، تخيف الجوار العربي بدرجات قصوى, وهو أمر مفهوم ومبرر. وإيران المنخرطة في صراع كبير مع الولايات المتحدة والغرب حول امتلاك التكنولوجيا النووية تضع المنطقة أمام خيار حرب جديدة، قد لا تقل آثارها الكارثية عن حروب الخليج الثلاث الماضية. ولو صحت التقارير الصحفية التي نُشرت مؤخراً حول تحضيرات إسرائيلية لضرب المنشآت النووية الإيرانية وهو ما ليس بالغريب عموماً, والرد الإيراني المتوقع, ثم احتمالات الانخراط الأميركي في أي مجهود عسكري ضد إيران، فإن لنا أن نتوقع ما قد يحدث في المنطقة ودولها (الأردن, سوريا, العراق ودول الخليج). هناك تأييد شعبي في بعض البلدان العربية لإيران, خاصة بعد الحرب الإسرائيلية ضد "حزب الله", وفي ضوء الموقف الأميركي ضد تكنولوجيا إيران النووية. لكن هذا التأييد تعرض لضربة قوية بعد إعدام صدام حسين والتأويلات الطائفية الانتقامية التي لازمته، ونسبة ذلك الإعدام إلى مؤيدي إيران في العراق وسوى ذلك. كما انخفض التأييد العربي لـ"حزب الله" الذي تبنى تلفزيونه "المنار" موقف الابتهاج الذي أغضب قسماً كبيراً من الرأي العام العربي حيث رأى الحزب ومحطته منخرطين في ركاب الإيرانيين. على كل حال ما يهمنا هنا هو أن هذا التأييد, حتى لو لم ينتقص, لا يمكن أن يشكل حجر أساس متين لصوغ استراتيجية إيرانية تقوم على فرض أجندتها السياسية والأمنية في المنطقة من دون أن تضع في الاعتبار المخاوف والمصالح العربية. وعندما لا تعير إيران أي اهتمام للمصالح والشكوك والمخاوف العربية, وتواصل سياسة مغامراتية قد تقود كل المنطقة إلى كارثة جديدة، فعليها ألا تتوقع أن تكون مواقف الدول العربية مؤيدة لها. كما عليها ألا تتوقع أن كل الدول العربية, وخاصة دول الخليج ومصر, ستقف مكتوفة الأيدي وهي ترى حرباً أخرى مسرحها الخليج هذه المرة بإمكانها أن تحيل أخضر هذه المنطقة يابساً. منطقة الخليج التي كانت المكان الذي آوى إليه رأس المال العربي بعد التضييق عليه في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر يجب أن يُحافظ عليها آمنة ومستقرة. ورأس المال الذي فيها ينطلق إلى دول عربية أخرى ويستثمر فيها, وأي حرب جديدة ستعيد الرساميل العربية إلى الغرب. كما أن أية حرب جديدة ستجلب الكثير من الدمار لدول الخليج التي يعيش فيها ملايين من أهل المنطقة, مواطنين ووافدين, وعليهم تعتمد ملايين أخرى في بلدانهم. المصلحة القومية العليا لدول الخليج وللبلدان العربية كلها هي ألا تحدث حرب جديدة في المنطقة, ومن حقها أن تدافع عن هذه المصلحة بالطرق التي تراها مناسبة في حال أن الآخرين يدافعون عن مصالحهم بالطرق التي يرونها مناسبة. واقعياً وعملياً، هناك مصالح إيرانية وعربية وخليجية متناقضة ومن الخطر الكبير أن يسعى كل طرف لتحقيق مصالحه في منطقة حساسة وملتهبة من دون مراعاة مصالح الأطراف الأخرى. لذلك فمن الضروري أن تكون هناك توافقات إيرانية- عربية, وخاصة خليجية, تنظم تناقض المصالح وتخفف من آثاره. ومن الضروري جداً صوغ نظام أمن إقليمي خليجي- إيراني يضع إطاراً عاماً لتلك التوافقات ويحيل التناقضات إلى أقل قدر ممكن من الأضرار, ويحدد مواقف ومسؤوليات الأطراف إزاء المصالح المشتركة وغير المشتركة في الخليج. لكن قبل ذلك يجب على إيران أن تبدأ بتبني سياسة عربية جديدة تقوم ليس فقط على قاعدة طمأنة العرب, وفي الخليج بخاصة, بعدم استهدافهم بالقوة الإيرانية, بل وتقديم ضمانات بذلك. وتحقيق هذا لن يتم بين عشية وضحاها, كما لا يتم عبر تصريحات لفظية فارغة من مضامين حقيقية, بل بسياسة تتجلى على الأرض. أول عناصر هذه السياسة هو التخلي عن أحلام ومنطق التوسع (الذي تجسد في فترة شاه إيران بلعب دور شرطي الخليج واحتلال الجزر الإماراتية الثلاث, وتجسد في فترة الخميني وما بعده عبر منطق تصدير الثورة إلى دور الجوار). كيف يمكن للعرب عموماً وللخليج خصوصاً الاطمئنان إلى سياسة إيرانية مسالمة، وهي لا زالت تحتل الجزر الإماراتية, ولم يختلف ذلك سواء أيام الشاه أو أيام الثورة الإسلامية. إعادة هذه الجزر للإمارات هي العنصر الأول من السياسة الإيرانية المطلوبة إزاء العرب. العنصر الثاني المطلوب هو تعديل الدور الإيراني في العراق. فمن ناحية أولى يجب ألا يكون العراق وراهنة ومستقبله ورقة تستخدمها إيران في صوغ علاقاتها أو صراعاتها مع الولايات المتحدة. التهديد بتفجير الوضع في العراق أكثر فأكثر في حال تفاقمت الأزمة النووية مع الولايات المتحدة معناه صب الزيت على الحريق العراقي في حرب وصراع ليست للعراقيين فيه مصلحة. ومن ناحية ثانية, على إيران الترفع عن السياسة الطائفية في العراق, وعدم التدخل لمصلحة طرف عراقي ضد الأطراف الأخرى, ورفض منطق تقسيم العراق وقيام دولة شيعية في جنوبه, وسُنيه في وسطه, وكرديه في شماله. الحرص على وحدة العراق, وتعدديته, وديمقراطيته, وبعيداً عن منطق الانتقام الطائفي والمذهبي يجب أن يكون بارزاً وظاهراً في سياسة إيران العراقية. العنصر الثالث متعلق بالتدخل في لبنان وفلسطين. الدور الإيراني في هذين البلدين أصبح مركزياً مع تعاظم قوة "حزب الله" و"حماس". وفي حين أن دعم إيران أو أي بلد آخر يؤمن بضرورة دعم اللبنانيين والفلسطينيين في مواجهة إسرائيل يجب أن يكون أمراً مرحباً به من ناحية المبدأ, فإن ما هو مرفوض هو أن تترتب على هذا الدعم مساهمة في تمزيق الساحات المعنية عن طريق تفصيل الدعم على مقاس حزبي, يسعِّر من الصراع الداخلي عوض أن يكون موجهاً للصراع مع الخصم الكلي. الدور الإيراني في لبنان وفلسطين يخيف الأطراف العربية ويحتاج إلى ترشيد يُبقي على الدعم من ناحية ويُقلل من التوظيف السياسي من ناحية أخرى. العنصر الرابع داخلي ومتعلق بعرب الأهواز في إيران. على إيران أن تعامل الأقلية العربية في "الأهواز" بإنصاف ومن دون قمع. هناك خمسة ملايين عربي يعيشون في إقليم عربستان المحاذي لشط العرب, وكانوا قد وجدوا أنفسهم وإقليمهم، ومنذ الربع الأول من القرن العشرين تحت السيطرة الإيرانية، وبحسب الرسم العشوائي الإمبريالي لحدود المنطقة. ومنذ ذلك التاريخ وهم يطالبون بالحكم الذاتي وحق تقرير المصير, لكن عانوا الاضطهاد من معظم إن لم نقل من كل الحكومات الإيرانية المتعاقبة. الحكومة الإيرانية الحالية لا تستمع لهم ولا لمطالبهم وقد قمعت احتجاجاتهم أكثر من مرة, وبكل قسوة. قد تُضاف عناصر أخرى لما هو مطلوب, ومن دون أن تعدل إيران سياستها العربية فإن مستقبل العلاقات الثنائي سيظل قاتماً.