تواجه إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش في العراق معضلات سياسية وأمنية وعسكرية تفاقمت عبر السنوات الثلاث الماضية منذ إعلان سقوط بغداد. معضلات سياسية بالدرجة الأولى فلا يمكن تبسيط الأمور بالحديث عن فيتنام أخرى في العراق تحاول الإدارة الحالية الخروج من مأزقها، فالقوة المتوحدة في العالم اليوم لديها القدرة على تحقيق هزيمة كبرى في العراق، ولن يكون ذلك مستغرب، والحديث عن هزيمة للقوات الأميركية في العراق هو من قبيل الأمنيات العربية الضائعة الباحثة عن سبب للتشفِّي من الولايات المتحدة. واقعياً شخَّص تقرير لجنة "بيكر– هاملتون" الأزمة العراقية، ووضع النقاط على الحروف في تشخيص دقيق رسم على أثره استراتيجية جديدة للخروج من المأزق العراقي بما يتناسب مع المصالح الأميركية. حقيقةً لا تملك الحكومة الأميركية عصى سحرية لتغيير الأوضاع العراقية لكثرة اللاعبين على الساحة السياسية العراقية، ولتعقد المخرجات السياسية على الساحة العراقية، بما لا يخدم الاستقرار. ولعل السؤال الأدعى للطرح قبل الحديث عن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في العراق هو: أيهما يحتل الأولوية في الحالة العراقية الأمن أم وجود حكومة وحدة وطنية تفرض النظام والأمن؟ أعلن الرئيس الأميركي جورج بوش الأربعاء الماضي استراتيجيته الجديدة في العراق، استراتيجية واكبتها حملة إعلامية واسعة النطاق ترافقت مع إصدار تقرير لجنة "بيكر- هاملتون"، وفي ظل إجماع داخلي أميركي مناهض للسياسة الأميركية في العراق على المستوى الشعبي وضغوط "الديمقراطيين" ذوي الأغلبية في الكونجرس لجدولة الانسحاب الأميركي من العراق. خطاب اعترف فيه بكل صراحة بأن أخطاء عديدة قد ارتكبت في العراق، ولكن لم يكن ذلك اعترافاً بالهزيمة، قائلاً بأن العنف الطائفي تجاوز المكاسب السياسية التي تم تحقيقها في العراق منذ غزوه عام 2003، وقد حاول حشد الشعب الأميركي وراء عملية سيطول أمدها ومن المتوقع أن ترتفع تكلفتها المادية والبشرية. استراتيجية لم تأتِ فعلياً بالجديد، تعتمد على خطة أمنية تأتي بمحاولة جادة لإحكام السيطرة الأمنية على بغداد ومحيطها التي تشهد 80 في المئة من أعمال العنف في العراق حسب الرئيس الأميركي الذي ذكر أن العاصمة العراقية لم تكن مؤمنة في الماضي، إذ لم تكن فيها قوات أميركية وعراقية كافية في الأحياء التي تم تطهيرها من "الإرهابيين" و"المتمردين" على حد قوله. والتزم الرئيس بوش في خطابه بإرسال 21.500 جندي إضافي إلى العراق الذي يتمركز فيه ما يقارب 132 ألف جندي، إضافة إلى جملة التزامات يمكن اختصارها في دعم وتحسين قدرة قوات الأمن العراقية لحماية السكان المدنيين. إضافة إلى تقديم مليار دولار أميركي على سبيل المساعدة في برنامج إعادة الإعمار ولتطوير العراق اقتصادياً، والمساهمة في تحديد أهداف مرحلية سياسية للحكومة العراقية. فيما لم يأخذ الخطاب بتوصيات "مجموعة دراسة العراق" التي دعت إلى إشراك سوريا وإيران في إدارة الأوضاع في العراق، فخلا الخطاب من المبادرات الدبلوماسية تجاههما، بل اتخذ موقفاً عدائياً تجاه إيران وسوريا اللتين اتهمهما الرئيس بوش بزعزعة استقرار العراق. هل يمكن أن تنجح استراتيجية الرئيس الأميركي بوش الجديدة تجاه العراق؟ إن ترجمة الاستراتيجية الجديدة في شقها الرامي إلى فرض الأمن في بغداد ومحيطها يعني الدخول في مواجهة مباشرة مع الميليشيات المسيطرة فعلياً إلى جانب حركات التمرد السُّنية، مما سيترجم فعلياً إلى مواجهة متوقعه مع ميليشيا مقتدى الصدر والميليشيات الشيعية المسيطرة على أجزاء من بغداد، مما يعني مواجهة بطريقة غير مباشرة مع الحكومة العراقية الشيعية الهوى. سلسلة علاقات التعدي تلك ستؤدي إلى مواجهة بين القوات الأميركية والحكومة العراقية بشكل من الأشكال، أي قتال القوات الأميركية مع القوات العراقية في مواجهة القوات العراقية، أحجية عراقية بامتياز. الحكومة العراقية الحالية وجدت نفسها لأول مرة في مواجهة تساؤل أميركي حول قدرتها على السيطرة على الأوضاع، خاصة في ظل تصاعد الشكوك الأميركية حول قدرة رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي على التعاطي مع المسلحين خاصة من الميليشيا الشيعية، حلفائه من جماعة مقتدى الصدر الذي ساهم في إيصاله لرئاسة الوزراء. إن بدء تطبيق الخطة الأمنية رغم محاولات الحكومة العراقية لتحييد ميليشيا "جيش المهدي"، ستجر لمواجهات شيعية- شيعية، إضافة إلى حساسية نشر لواء كردي في العاصمة العراقية ضمن 18 لواء تعتزم الحكومة العراقية نشرها في الأحياء، حيث ستجري تفتيشات دقيقة مع فرض طوق أمني شديد حول كل منطقة للحؤول دون هروب المسلحين المطلوبين، وستتمركز قوات بشكل دائم في الأحياء التي سيتم تطهيرها. ويفترض ألا تخضع الخطة لأي تدخل سياسي من أي جهة. الحكومة العراقية على رغم إعلانها دعم الاستراتيجية الأميركية الجديدة إلا أنها سرعان ما ستجد نفسها في مواجهة مفتوحة مع الميليشيا الشيعية في بغداد والميليشيا السُّنية في الأنبار، وفي كلتا المواجهتين ستخسر الحكومة العراقية، كما ستخسر الاستراتيجية الأميركية المستجدة الدعم الشيعي والسُّني اللازم لتنفيذها داخلياً. فتأجيل المواجهة سيكون عنوان المرحلة القادمة قبل الإعلان رسمياً عن فشل حكومة المالكي في السيطرة على الأوضاع الأمنية في العراق، ومعها ستلقي الحكومة الأميركية باللائمة على حكومة المالكي لتصاعد الفشل والانهيار الأمني القادم. لقد فشلت الإدارة الأميركية فشلاً ذريعاً في فرض الأمن على الساحة العراقية، وبدلاً من تنصيب حكومة وحدة وطنية نصبت حكومة طائفية شيعية في المقام الأول، وبدلاً من أن يكون هدف الحكومة المحافظة على الاستقرار وفرض الأمن برز أن من أولويات الحكومة العراقية فرض الأمر الواقع الجديد المؤدي بالأساس لإيجاد دولة مذهبية شيعية والباقي تفاصيل. فكان من نتائج الممارسات الأميركية والعراقية حمامات من الدم، وفلتان أمني خطير انعكس وسينعكس على مجمل المنطقة. اليوم تعرف الادارة الأميركية أن الأزمة العراقية تتمحور في إدارتها للأزمة، وفي الخيارات المتاحة، وعلى رغم الخيارات التي طرحها تقرير لجنة "بيكر- هاملتون" وعلى رأسها تعزيز فرص المصالحة الوطنية ونشر الأمن، من طريق التعاون مع إيران وسوريا، إلا أن إدارة الرئيس بوش لجأت إلى حيل تكتيكية وبدلاً من سحب قواته تدريجياً، قرر الرئيس زيادة عدد قواته في سبيل فرض استراتيجيته الجديدة. استراتيجية جديدة قديمة ينهي بها الرئيس الأميركي فترته الرئاسية خارج المستنقع العراقي.