بسبب الصفقات الخفية بين الكبار لم تتح للنخب الآسيوية التي برعت بشهادة العالم في قيادة بلدانها نحو النهضة والتنمية والرخاء أن تدير دفة الجهاز الأعلى المسؤول عن شؤون العالم سوى مرة يتيمة، فيما منح هذا الشرف لأفريقيا مرتين رغم الحقيقة التي لا تحتاج إلى براهين عن فشل نخب الأخيرة في انتشال قارتها من البؤس والتخلف و الفوضى. ومن هنا فإن استلام الكوري الجنوبي "بان كي مون" قيادة السفينة الأممية مؤخراً كثامن أمين عام في تاريخ الأمم المتحدة، يأتي تصحيحاً لوضع مختل طال أمده. لكن هذه المرة أيضاً لم يخلُ الأمر من مساومات جرت خلف الكواليس بين الكبار لتهميش مرشحين آسيويين آخرين ربما كانوا أكثر تميزاً من السيد "مون"، لجهة الجهود الإنسانية و الإنتاج الفكري والثقافي والجوانب الإبداعية الرفيعة على نحو ما ورد في سيرة منافسه الأقرب ابن الأمم المتحدة الهندي "شاشي تارور". يأتي مون إلى قيادة الأمم المتحدة في حقبة عصيبة لا تختلف كثيراً عن الحقبة التي جاء فيها الآسيوي الآخر "يوثاند". صحيح أن عصراً كاملاً حافلاً بالصراعات والحروب المريرة يفصل بين الرجلين، غير أن الصحيح أيضاً هو أن الكثير مما صار جزءاً من التاريخ عاد مجدداً في صور أخرى أكثر ضراوة وتهديداً للسلم والأمن العالميين. فلئن بدأ "يوثاند" عهده في أوج الحرب الباردة بين القطبين الأميركي والسوفييتي، فإن "مون" يبدأ عهده في أوج حرب من نوع آخر هي الحرب على الإرهاب، التي يصارع فيها المجتمع الدولي غولاً غير محدد المعالم والقدرات والمواقع.وكما بدأ "يوثاند" عهده بمواجهة أزمتين كبيرتين هما أزمة الصواريخ الكوبية وأزمة الكونغو، فإن "مون" يجد نفسه اليوم أمام أزمتين لا تقلان خطورة وتتطلبان جهداً خارقاً إن أرادت منظمته فعلاً أن تحافظ على ما تبقى لها من دور وهيبة هما: الأزمة النووية بين واشنطن وكل من طهران وبيونج يانج، والأزمة المتفجرة في القرن الأفريقي بما فيها مشكلة دارفور. ومثلما شهدت حقبة "يوثان" تورط الولايات المتحدة في فيتنام، تشهد بدايات حقبة خلفه تورطاً أميركياً متزايداً في العراق. وكما ورث "يوثاند" من أسلافه ملفاً شائكاً لم يفلح في إيجاد حل له رغم محاولاته الدؤوبة، فأورثه لمن جاءوا بعده، ونعني بذلك ملف الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، يرث "مون" ذات الملف من سلفه وقد زاد تعقيداً. على أن المختلفات والمتشابهات بين الرجلين لا تنحصر في ما سبق ذكره. فعلى الصعيد المهني، ورغم كونهما من نتاج الجهاز الحكومي في بلديهما حيث تسلقا الوظائف الرسمية المرموقة وصولاً إلى تمثيل بلديهما في الأمم المتحدة، وبما أتاح لهما الإطلاع عن كثب على خفايا العمل في الأخيرة، فإن "يوثاند" قضى الجزء الأكبر من مشواره قبل وصوله إلى نيويورك سفيراً لبلاده في عام 1957، في الحقل الإعلامي، بدءاً من تأسيسه لجريدة يومية باسم "الشمس" وكتابته للمقالات في المجلات والدوريات المحلية وقيامه بترجمة العديد من الكتب الأجنبية، ثم ترؤسه لهيئة الإذاعة البورمية بعيد الاستقلال في عام 1948، فشغله لمنصب وزير الإعلام ما بين عامي 1951 و1957، فتعيينه سكرتيراً خاصاً مسؤولاً عن كتابة الخطب الرئاسية وتنظيم الزيارات الخارجية لصديقه وأول وآخر رؤساء بورما الديمقراطيين وأحد مؤسسي حركتي باندونج وعدم الانحياز "أونو". وهذا يختلف بطبيعة الحال عن مشوار "مون" الذي بدأ حياته العملية فور تخرجه من الجامعة في عام 1970 كموظف في الخارجية الكورية، قبل أن يرقى ويرسل للعمل في سفارات بلاده في نيودلهي وفيينا وواشنطن والأمم المتحدة، وقبل أن يصبح في التسعينيات مديراً لإدارة الشؤون الأميركية في وزارة الخارجية فنائباً لوزير التخطيط والمنظمات الدولية فمستشاراً لرئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي، فوزيراً للخارجية. وبعبارة أخرى نحن أمام شخصيتين: الأولى عملت مع بناة الديمقراطية في بورما التي كانت في مطلع الخمسينيات على موعد لتصبح أحد النماذج المشابهة للهند في الديمقراطية ودولة المؤسسات المدنية المنيعة لولا انقلاب الجنرال "نيوين" العسكري في عام 1962 الذي أطاح بكل الآمال وأدخل البلاد في عزلة قاتمة لا تزال مستمرة إلى اليوم، بل الذي تملك قائده الغيظ من نجاحات "يوثاند" وشهرته الدولية فبالغ في تهميشه والتعتيم على اسمه إلى أن مات الأخير في نيويورك بالسرطان عام 1974 دون أدنى تقدير أو عرفان من وطنه، وشخصية عملت وبرزت وحققت ما حققته في ظل أنظمة ديكتاتورية قمعية، وإن كان يحسب لهذه الأنظمة أنها وضعت كوريا الجنوبية على طريق التصنيع والازدهار خلافاً لما حدث في بورما. أما على الصعيد الأكاديمي، فتتشابه سيرة الرجلين جزئياً. فهما لئن تخرجا من أفضل جامعات بلديهما وتحديداً من كلية "رانغون" الجامعية وجامعة سيئول الوطنية، فإن تحصيل البورمي توقف عند حدود ليسانس التاريخ، فيما واصل الكوري تحصيله مضيفاً إلى بكالوريوس العلاقات الدولية شهادة الماجستير في الإدارة الحكومية التي نالها في عام 1984 من جامعة هارفارد الأميركية، وإجادة اللغات الإنجليزية والفرنسية واليابانية والألمانية. جاء "يوثاند" إلى الصرح الأممي محملاً بمعتقداته البوذية التي حاول خلال ولايتيه الممتدين من 1961 إلى 1971 أن يوظف بعض مبادئها في تسيير دفة العمل، مضيفاً إليها بعضاً من طباعه الشخصية كالتواضع والزهد والصبر وحسن الإصغاء وتحاشي البهرجة الإعلامية، فنجح في أن يطبع عهده بطابع مغاير لما اتصف به عهد سلفه السويدي "داغ همرشولد" الذي تميز بديناميكية طاغية وصراحة عالية في المواقف أغضبت منه البعض وعلى رأسهم السوفييت. وكان من مردود نهج الحذر والصبر والكتمان والحركة المتزنة نجاح "يوثاند" في العديد من جهوده الدبلوماسية لحل أزمات كوبا والكونغو وقبرص والبحرين أو تداعيات حرب اليمن الأهلية وحرب استقلال بنجلادش إلى درجة أن كل الكبار أجمعوا في عام 1971 على منحه ولاية ثالثة، وهو ما رفضه الرجل بإصرار، بل رفض حتى التمديد المؤقت له، وذلك في ظاهرة مخالفة لما حدث مع سائر خلفائه. لكن الرجل لم يسلم من الانتقاد المرير، على الأقل في واقعة واحدة، هي استجابته لطلب الرئيس المصري جمال عبدالناصر بسحب قوات الطوارئ الدولية من سيناء قبيل حرب يونيو 1967، رغم أن أكبر قوتين مشاركتين في هذه القوات (الهند ويوغسلافيا) كانتا قد قررتا الانسحاب فعلياً. أما "مون"، فإنه يخلف الغاني كوفي عنان الذي خلت فترته إجمالاً من المصادمات الصاخبة التي طغت على عهد المصري بطرس غالي، ومن البرود وعدم الاكتراث اللذين طغيا على عهد البيروفي خافيير دي كويار. وهو عازم أن يضفي لمساته الآسيوية الخاصة على المنظمة، ويبرهن للعالم أن الآسيويين الذين نجحوا في تحويل قارتهم من أكثر قارات العالم تخلفاً وبؤساً إلى أكثرها نمواً وطموحاً قادرون على التعامل مع التحديات الأممية الراهنة. وفي هذا يقول "مون" عن نفسه إنه قد يكون بلا كاريزما، وقد يبدو ناعماً من الخارج، إلا أنه يحمل بداخله من القوة ما يستطيع به الحسم والإنجاز، مضيفاً "نحن الكوريون، نهضنا من رماد الحروب ونعرف معنى الإرادة والتصميم لعمل المستحيل. وقد ساعدتنا الأمم المتحدة كثيراً على النهوض، وحان الوقت لكي نرد لها بعض الجميل". لكن الأمر المؤسف هو أن يبدأ الرجل عهده بقرار أثار زوبعة من الانتقادات. فهو بإسناده ثاني أعلى منصب أممي إلى التانزانية "عايشه روز ميغيرو"، لقي الإشادة من أنصار المساواة الجندرية، لكن آخرين كثراً يرون شبهة ومحاباة في هذا الاختيار، خاصة وأن المعنية غير معروفة عالمياً ولا توجد لها إنجازات باهرة، بل لم يمض على قيادتها لوزارة الخارجية التانزانية سوى عام واحد.