قامت زوبعة كبيرة في باريس قبل بضع سنوات حول قصة رمزية عن "السبّاك البولندي" الذي كان يأتي لسرقة وظائف الفرنسيين. أما اليوم، فإن الأوروبيين الشرقيين لا يتحسرون على فقدان السباكين فحسب، وإنما على جميع عمال الخدمات؛ إذ تقول "ريتا ستانكفيسيوت"، وهي صحفية تعيش في فيلنيوس (عاصمة ليتوانيا): "إذا كان المرء يريد اليوم إجراء بعض الإصلاحات في بيته، فلن يجد أحداً للقيام بذلك"، مضيفة: "إنه أمر سخيف؛ ذلك أن الطوابير في محلات البقالة هي اليوم أطول مما كانت عليه. وعندما كنت أحتاج إلى سيارة أجرة، كان الأمر لا يتعدى ثلاث دقائق. أما اليوم، فأحتاج إلى ساعة كاملة". وإذا كان الأوروبيون الغربيون يخشون موجة تدفق جديدة للأوروبيين الشرقيين على بلدانهم -هذه المرة من رومانيا وبلغاريا اللتين كانتا آخر المنضمين إلى الاتحاد الأوروبي- فإن لـ"الشرقيين" انشغالاً مخالفاً يتمثل في كيفية إقناع هؤلاء المهاجرين بالعودة إلى الوطن. والواقع أن الأمر يكتسي طابعاً استعجالياً لاسيما بالنسبة لبلد صغير مثل ليتوانيا التي تعرف انخفاض معدل الولادات، مقابل ارتفاع في معدلات الهجرة والإدمان على الكحول والانتحار. ذلك أن نحو 400000 شخص من مواطني هذا البلد الشيوعي السابق ذي الأربعة ملايين نسمة، هاجروا غرباً؛ إما للعمل في قطاع البناء في دبلن، أو لجني التوت في جنوب أسبانيا، أو كفنيين وباحثين في البلدان الإسكندنافية. ويقول "زيلفيناس بيليوسكاس"، مدير "المركز الإعلامي لليتوانيين العائدين"، وهو هيئة تدعمها الحكومة: "علينا أن ندعوهم للعودة، وأن نعتبرهم جزءاً لا يتجزأ من البلاد". كما انضمت هيئات دولية، مثل "المنظمة الدولية للهجرة"، إلى جهود تشجيع المهاجرين على العودة إلى بلدانهم الأصلية؛ حيث كشف فرع المنظمة في "فيلنيوس" مؤخراً عن موقع باللغة الليتوانية على شبكة الإنترنت، يدعى "المركز الإعلامي المستقل حول الهجرة"، يقدم معلومات دقيقة للليتوانيين الذين يفكرون في الهجرة إلى الخارج، ولمواطنيهم المهاجرين الذين يفكرون في العودة إلى الوطن. تقول "أودرا سيبافيسين" التي ترأس فرع المنظمة الدولية للهجرة في "فيلنيوس": "إذا ترك أحد المهاجرين بلاده فترة تصل خمس سنوات، فإنه قد يكون متشائماً جداً حيال فرص العمل حين عودته إلى البلاد، ولسان حاله يقول: (آه لم يتغير شيء)... غير أن الأمر مختلف اليوم، ذلك أنه إذا كانت ثمة معلومات وافية ودقيقة في مكان واحد، فإن ذلك قد يشجع ؤلئك المهاجرين على العودة". أما "ديمانتي دوكساييت"، وهي صحافية ليتوانية شابة شاركت مؤخراً في إنشاء موقع إلكتروني يربط بين المهاجرين الليتوانيين وبلدهم، فقد كان لديها هدف مغاير شيئاً ما؛ وهو مد يد المساعدة، إذ تقول "إن الهجرة موضوع الساعة هنا في البلاد"، غير أن المهاجرين "لا يحصلون على اهتمام كاف من جانب ليتوانيا، ولذلك أردنا أن نقول لهم إن ثمة من يكترث لحالكم. وأعتقد أن هذا أسرع وأسهل وأرخص طريقة لتحقيق الهدف". كما ظهرت مواقع إلكترونية مماثلة في بولندا ولاتفيا وروسيا، في منطقة يوجد بين معظم مواطنيها قريب أو جار يعمل في الغرب. وقد بدأت الهجرة الاقتصادية نحو الغرب، بشكليها القانوني وغير القانوني، منذ سقوط جدار برلين قبل 17 عاماً. والحقيقة أن بعض الساسة في أوروبا الشرقية التي كانت تعاني أوضاعاً اقتصادية متدهورة، لم يكونوا يرغبون في وقف هذه الموجة بالنظر إلى تحويلات المهاجرين المقدرة بمليارات الدولارات سنوياً، ومساهمة الهجرة في تخفيف الضغط على كاهل الدولة. والحال أن المهاجرين جعلوا الدولة تظهر، خلافاً للواقع، بمظهر من نجح في معالجة معضلة البطالة؛ حيث أعلن الاتحاد الأوروبي في يوليو الماضي أن إيستونيا وليتوانيا سجلتا أكبر انخفاض في البطالة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي. وإذ اتضح أنه كما تضر هجرة الأدمغة بالمصلحة الوطنية -حيث يهاجر المهنيون الشباب ممن تلقوا تعليماً عالياً إلى أوروبا الغربية، بحثاً عن رواتب أعلى- فإن هجرة الطبقة العاملة التي توشك على الاختفاء تضر هي الأخرى بقطاع الخدمات المحلية، حيث يسجل نقص في عُمال البناء وسائقي الشاحنات ونادلات المطاعم وعمال المراكز التجارية. وفي مسعى لتعويض هذا النقص، يلجأ بعض المشغِّلين اليوم إلى استقدام العمال من أوكرانيا وروسيا وبيلاروسيا ومولدوفا؛ غير أن ذلك أثار بالمقابل مشاعر قومية في "فيلنيوس" بسبب المخاوف من إعادة "روسنة" البلاد، وتعالت الأصوات قائلة إن "ليتوانيا للليتوانيين". غير أن بولندا لم تستطع الانتظار طويلاً؛ حيث أعلنت وزارة العمل البولندية في أغسطس المنصرم أن العمال القادمين من الشرق من أجل العمل الموسمي في المزارع البولندية، لم يعودوا مطالبين برخص العمل. يقول البعض إن الأجور العالية يمكنها أن تعيد البولنديين إلى بلادهم، غير أن من شأن ذلك بالمقابل أن يزيد التكلفة بالنسبة للمشغلين، وهو ما سيضعف قوتهم التنافسية في الأسواق الدولية. وفي هذا الإطار، يقول عالم الاقتصاد "جاشيك كوكروفسكي"، المستشار الإقليمي لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في "براتيسلافا" (سلوفاكيا): "أحلم بالعودة إلى بولندا، ولكنني لا أستطيع العودة من أجل 30% من راتبي الحالي". مايكل جي. جوردان مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" - فيلنيوس ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"