يثير خطاب الرئيس بوش الأخير، الذي عرض من خلاله خطته الجديدة إزاء العراق، خمس ملاحظات أساسية. أولاً: أنه يقدم تحليلاً أكثر واقعية للوضع في العراق، بما لا يقاس إلى أي تحليل سابق له في الخطابات الرئاسية التي ألقاها من قبل. ومما يحسب إيجاباً للخطاب الأخير، أنه اعترف صراحة بالفشل والإخفاق في تحقيق المهام التي شنت من أجلها الحرب على العراق حتى الآن. إلا أن الملاحظ أنه كان تكتيكياً ومراوغاً في التهرب من تحمل تلك المسؤولية وإلقائها على شخص الرئيس. أما لغته ونبرته، فقد بدت أكثر خفوتاً في التعبير عن مشاعر "الإسلاموفوبيا" التي غصَّت بها خطابات الرئيس بوش ونبرته السياسية، منذ وقوع هجمات الحادي عشر من سبتمبر. ولكن مع ذلك، فإن بوش لم يتمكن مطلقاً من مقاومة إغراء التسطيح والتبسيط الدعائي الديماغوجي، لمجمل التحديات التي تواجهها بلاده وإدارته في العراق. فها هو لا يزال يسمى مهمته هناك، بأنها "كفاح ضارٍ من أجل الحفاظ والدفاع عن ديمقراطية غضة نامية، في وجه أعدائها من الراديكاليين المتطرفين، إضافة إلى كونها جهداً يهدف إلى حماية المجتمع الأميركي، من خطر الإرهابيين وشرهم". ولكن ما أكثر الشكوك التي تحيط بكلا الهدفين المذكورين للمهمة العراقية التي تضطلع بها إدارته! ثانياً: أن الالتزام الذي قطعه بوش في خطابه الأخير، بإرسال 21.500 جندي إضافي إلى العراق، لا يعدو كونه حيلة سياسية ذات أثر تكتيكي محدود، ويفتقر إلى أي قيمة تذكر من الناحية الاستراتيجية. ومهما كان تصور الرئيس بوش، والمبررات والدوافع وراء هذا الالتزام، فإن المؤكد أنه ليس كافياً أن نفوز بالجانب العسكري من الحرب فحسب. ذلك أن الأزمة التي يواجهها العراق، هي أزمة سياسية في المقام الأول. ثم إن الفوز بالجانب العسكري نفسه، تحول دونه عقبات وعقبات. لذلك وإلى جانب تعريض هذا الالتزام الجديد للمزيد من جنودنا ومقاتلينا لمخاطر العنف الدموي، مما يعني حتمية ارتفاع عدد القتلى والضحايا بينهم، فإنه لن يكون بوسعه وضع حد لدوامة هذا العنف الطائفي العرقي المستشري في العراق كما ألسنة النار في الهشيم. وعند النظر إلى هذه الدوامة العراقية الداخلية، فلندع جانباً أي ذكر في الوقت الحالي، لجانب التمرد المعادي لأميركا فيها. فهذه جبهة أخرى منفصلة بحد ذاتها من جبهات العنف والاحتراب العراقي. ثالثاً: أن قرار زيادة عدد قواتنا هناك، وبالتالي توسيع نطاق مهمتنا العسكرية في ذلك البلد، متزامناً ومصحوباً بفرضنا حداً لما يجب ألا تتجاوزه سيادة النظام العراقي، إلى جانب تشديدنا على حجم الخطر الخارجي الذي تمثله كل من سوريا وإيران، إنما يضع كل ذلك الإدارة أمام خيارين محدودين لا ثالث لهما، في حال ما اتضح عجز النظام العراقي، عن الإيفاء بمعايير السيادة التي حددتها له واشنطن. أولهما أن تنتهج الإدارة نهج الإلقاء باللائمة على النظام العراقي ثم الهرب من المهمة كلها، وهذا يعني الانسحاب الفوري، بحجة عجز الحكومة العراقية عن النهوض بواجباتها. غير أن نهجاً كهذا، لن يساعد في إزالة الشكوك المحيطة بسيناريو "التداعي العراقي الشامل"، كنتيجة كارثية حتمية، مترتبة عن الانسحاب الأميركي من هناك. أما الخيار الثاني، الذي يبدو أنه ساور الرئيس بوش واختمر في ذهنه، فيتمثل في توسيع العملية العسكرية، بحيث تشمل إما سوريا أو إيران. وهذا خيار لا يعدم وجود الكثيرين داخل الإدارة وخارجها من "المحافظين الجدد"، ممن يدفعون باتجاهه. بل إن ثمة آخرين مثل جوزيف ليبرمان، ربما يفضلونه كأحد الخيارات الممكنة. رابعاً: لم يسعَ الخطاب، مجرد خطوة واحدة، باتجاه بلورة حل سياسي نهائي للأزمة. والمعروف أن حلاً كهذا، يقتضي إجراء حوار جدي بغية التنسيق التام بين واشنطن وبغداد في اتخاذ القرار الخاص بموعد الانسحاب الأميركي من هناك. كما يقتضي ذلك أيضاً مشاركة كافة القيادات العراقية ذات الوزن والاحترام السياسيين. يُشار إلى أن رأي غالبية العراقيين يفضل أن يتم هذا الانسحاب، خلال أقرب مدة زمنية ممكنة. كما أن من شأن اتخاذ قرار أميركي عراقي مشترك بصدد هذا الانسحاب، أن يشجع الدول الإقليمية المجاورة، على الانخراط في حوار إقليمي، يكون محوره أمن المنطقة واستقرارها، بما في ذلك أمن العراق واستقراره بالطبع. ويلاحظ هنا، أن تعنت واشنطن ورفضها القاطع لإشراك سوريا وإيران في حوار كهذا، إنما ينسجم تماماً ونهج نفي الذات، ودبلوماسية الإدارة القائمة على إحلال الشعارات محل السياسات والتخطيط الاستراتيجيين. خامساً وأخيراً: يعكس الخطاب سوء فهم مريعاً لعصرنا هذا. ذلك أن أميركا تتصرف الآن وكأنها دولة استعمارية في العراق. ولكن علينا أن نذكر أن عصر الاستعمار قد ولَّى مرة واحدة وإلى غير رجعة! وما دام الحال هكذا، ومنطق العصر، فهل من هزيمة ماحقة للذات، أكثر من شن حرب استعمارية في عصر ما بعد الاستعمار؟ تلك هي الثغرة الكبرى في سياسات الرئيس بوش، ولا أرى له من سبيل ولا حيلة لترقيعها أو سدها مهما فعل. وبما أن عود الحرب أعوج منذ طلقتها الأولى، فكيف لظلها أن يستقيم ويعتدل؟! فلا الخطاب الأخير ولا الذي قبله، بقادرين على إصلاح ما أفسدته طلقة الحرب الاستعمارية الأولى. زبيجنيو بريجنسكي ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مستشار الأمن القومي في إدارة الرئيس جيمي كارتر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"