الكتاب الذي نعرضه في هذه المساحة وعنوانه: "قضايا مقدسة: الدين والسياسة... من الطغاة الأوروبيين إلى تنظيم القاعدة"، لمؤلفه "مايكل بيرلي"، يبدؤه بالإشارة إلى الكلمة التي ألقاها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العام الماضي، والتي رحب فيها بعودة الدين إلى احتلال مكانة متميزة في تقرير شؤون العالم، كما أعلن سعادته بزوال النظم الملحدة من العالم، وعودته للأديان التوحيدية الكبرى، والتي ستكون قادرة في نظره على حل كثير من مشكلات العالم. ما قاله نجاد يشير إلى تطور واقعي مهم فاجأ معظم الليبراليين في العالم، والذين ظلوا على مدى أجيال طويلة مقتنعين بأن الدين ليس إلا نتاجاً فرعياً للجهل، متطلعين إلى مستقبل علماني يختفي فيه الدين أو تتلاشى آثاره! ويقول المؤلف إن التطورات التي حدثت في العالم، أثبتت خطأ الليبراليين، فمع أن العلم والتقنية قد حققا إنجازات غاية في الأهمية وتقدماً بسرعة فائقة، إلا أن ذلك لم يؤدِّ إلى اختفاء الدين، كما كان منتظراً، بل عاد بقوة في معظم أرجاء العالم. ويرى المؤلف أن سبب عدم اختفاء الدين يرجع إلى أن معظم الأيديولوجيات العلمانية التي انتشرت خلال القرن الماضي، كانت تقوم في جوهرها على أساس ديني (مسيحي أساساً). ولتوضيح هذه النقطة يذهب إلى أن الحركات التي ظهرت في أوروبا، بدءاً من اليعاقبة في الثورة الفرنسية وحتى الفوضويين في روسيا القرن التاسع عشر، أدت في النهاية إلى إنتاج سلسلة من "الأديان السياسية" أو النظم السياسية التي كانت تحمل بعض سمات الدين. فـ"ماركس" و"باكونين"، عندما تخيلا أن الماركسية ستقدم عالماً مثالياً في نهاية التاريخ، كانا يقومان في الحقيقة بإعادة إنتاج رؤية اللاهوت المسيحي نفسها. كما أن المفاهيم والقيم الدينية تخللت بعض الأيديولوجيات الأقل شهرة؛ مثل "الوضعية المنطقية" لأوجست كونت. ويتناول المؤلف الأديان السياسية، بدءاً من فترة ما بين الحربين إلى لحظتنا الراهنة، مركِّزاً على صعود وسقوط الماركسية، ودور الكنيسة في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية وفي أسبانيا والبرتغال، كما يتطرق إلى الصراع الطائفي في أيرلندا، وصعود "الإسلام الراديكالي"، ويكشف عن الجذور الخفية لتوتاليتارية القرن العشرين. ويقول في هذا الصدد إنه لا يمكن النظر إلى النازية كرد فعل للاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الذي ساد في ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، بل كانت النازية في جوهرها حركة "رسولية"، حيث كانت تَعِد بحياة جديدة في العالم الذي ستقيمه على أنقاض القديم... كما يرى المؤلف أن النازية والماركسية اللينينية تنتميان إلى المنبع ذاته، وأنهما كانتا تجسيداً لنوع جديد من الأديان السياسية التوتاليتارية. وإذ يعرف المؤلف أن هذا الرأي سيغصب علماء الاجتماع الذين لا يثقون في نظريات التوتاليتارية، ويرفضون فكرة الأديان السياسية في حد ذاتها، لكن ذلك الرفض، في رأيه، لا يقوم على دليل لأن التوتاليتارية حقيقة راسخة من حقائق القرن العشرين، ولأنها أدت وظائف كانت تقوم بها الأديان فيما سبق، وبالتالي فإن رفض هؤلاء العلماء لمثل هذه الفكرة، يعتبر في نظره دليلاً على أن علم الاجتماع قد عزل نفسه عن التجارب الإنسانية الحية، وفضل التقوقع في أبراج نظرية لا صلة لها بالأحداث. ويضمِّن المؤلف كتابه بعض الفرضيات المثيرة للجدل، ومنها أن معظم الشرور والأهوال التي شهدها العالم في القرن العشرين، كان يمكن تلافيها لو أن أوروبا حافظت على إيمانها المسيحي التقليدي، متناسياً أن كثيراً من وقائع التعذيب والاضطهاد التي كانت تتم في القرون الوسطى كانت تتم على أيدي الكنيسة وباسمها، كما أن أوروبا المسيحية حينئذ لم تكن واحة سلام كما يحاول أن يوحي، بل شهدت حروباً وحشية واضطهاداً لأصحاب الديانات الأخرى، كانت كلها إرهاصاً بالحروب الكبرى التي مزقت أوروبا في القرن العشرين. ويخصص المؤلف جزءاً من كتابه لمحاولة تبرئة الكنيسة الكاثوليكية من تهمة التواطؤ مع النازية، رغم أن هناك أدلة عديدة تثبت هذا التواطؤ. ويصل المؤلف إلى أقصى درجات اللاتوازن وعدم الإنصاف عند تناوله للإسلام فهو يضمن الجزء الذي تحدث فيه عن الإسلام صورة لمركز التجارة العالمي وألسنة اللهب تشتعل فيه، معلقاً تحتها بالقول: "هذا العمل من أعمال القتل الجماعي، يدشن فترة من العدوان الإسلامي غير المحدود ضد الحضارة الغربية". ويحتوي الكتاب على صفحات من الهراء المعتاد حول الإسلام و"التأثير المدمر الذي يلعبه الوجود الإسلامي في أوروبا على الثقافة الأوروبية الأصيلة"، كما يتضمن محاولات لوصف الدين الإسلامي بأنه "دين عنف"، يغض خلالها المؤلف عينيه عن تاريخ العنف في المسيحية ذاتها. وانحيازاً منه ضد المسلمين، يحاول ربط ظهور التفجيرات الانتحارية بالإسلام، رغم أن أول من ابتدعها كان ثوار "نمور التاميل" الذين ينتمون إلى حركة ماركسية لينينية، والذين نفذوا تفجيرات انتحارية -قبل حرب العراق- بما يفوق ما ارتكبته أي جماعة أخرى. والجزء الوحيد الذي يمكن أن نتفق فيه مع المؤلف هو "عودة الأديان"، وخاصة الأديان التوحيدية، بقوة إلى الساحة، وتقاطعها مع بعض الأجندات السياسية في أماكن مختلفة من العالم. كما نوافقه في القول إن السياسة إذا ما كانت علمانية في الماضي، فإنها لم تعد كذلك الآن، خصوصاً ونحن نرى أن رئيسي دولتين، مسيحية وإسلامية، يقفان أمام بعضهما بعضاً في موقف المواجهة، وهما جورج بوش رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ومحمود أحمدي نجاد رئيس إيران، منطلقين في خطابيهما والكثير من مواقفهما، من خلفيات دينية واضحة. سعيد كامل الكتاب:" قضايا مقدسة: الدين والسياسة من الطغاة الأوروبيين وحتى تنظيم القاعدة" المؤلف: مايكل بيرلي الناشر: هاربر بريس تاريخ النشر: 2006