أدى صعود الصين الملفت على الساحة الدولية، لاسيما في المجال الاقتصادي والنمو الباهر الذي حققه اقتصادها على نحو غير مسبوق، ليبلغ حجمه تريليوني دولار، إلى نشوء مجموعة من الأفكار الخاطئة حول عظمة الصين ومعجزتها الاقتصادية. وفي غمرة الانبهار بالمنجز الاقتصادي الصيني الذي تحقق في ظرف وجيز نسبياً، بعد أن كان أغلب سكانها قبل 25 سنة فقط، يرزحون تحت الفاقة والفقر. وبدأت العديد من الأوساط الغربية تبدي تخوفها من تنامي القوة الصينية التي غزت بضائعها الرخيصة كل الأسواق الغربية وباتت تزاحم المنتجات الغربية في عقر دارها. هذه المقولات التي لا يكاد يخلو من إثارتها محفل غربي، هي ما يسعى إلى تفنيده الكاتب البريطاني "ويل هوتون"، في كتابه الأخير، وعنوانه "الكتابة على الحائط: لماذا علينا معانقة الصين كشريك وإلا التعامل معها كعدو؟". المؤلف يلفت انتباهنا منذ الصفحات الأولى للكتاب إلى ذلك التعارض القائم بين نظرتين للصين. فمن جهته ينظر الغرب إلى الصين باعتبارها اقتصاداً رأسمالياً يعتمد على السوق وآلياته المعروفة، ومن جهة أخرى تسمي الصين تجربتها "اقتصاد السوق الاشتراكي". بيد أن المؤلف، وكان محرراً اقتصادياً لأكثر من صحيفة بريطانية، فضلاً عن انتسابه إلى هيئة الإذاعة البريطانية فترة من الزمن، يعطي توصيفاً مغايراً للتجربة الاقتصادية الصينية. فإذا كانت الصين تبرهن من خلال نموذجها الاقتصادي على جدوى أسلوب الخصخصة وفتح الأسواق وتحريرها والانخراط في العولمة دون تحفظ... كأعمدة أساسية للنجاح الاقتصادي وتحقيق معدلات نمو مرتفعة، فإنه بإمعان النظر في مفاصل الاقتصاد الصيني يبرز المؤلف مفارقته للمبادئ الرأسمالية كما هي معروفة في الغرب. فمازال الاقتصاد الصيني يدور حول الحزب الشيوعي الحاكم ولا يخرج أبداً من فلكه؛ فهو المتحكم الأساسي في عصب الاقتصاد والموجِّه الأول للمشاريع والاستثمارات الكبرى. أما المفاهيم المرتبطة بالممارسة الرأسمالية؛ كالملكية الفردية واستقلال الشركات... فلا وجود لها في الصين. ووفقاً للكاتب، فالحقيقة هي أن الصين لا تعتمد على اقتصاد السوق الاشتراكي كما تدعي، ولا هي تتحرك باتجاه الرأسمالية كما يعتقد الغرب ذلك، بل هي جامدة داخل إطار اقتصادي يطلق عليه الكاتب اسم "نموذج الشركات اللينينية". وهو نموذج يفتقد الاستقرار، ويعاني من تفشٍّ كبير لقلة الكفاءة والإنتاجية، ويرتكز إجمالاً على مصادرة أراضي المزارعين وعلى معدل الادخار العالي للمواطنين. وفي الأخير يستنتج المؤلف أن هذا النموذج المولد للفوارق الطبقية المهولة، ليس بمقدوره الاستمرار طويلاً ما دامت استدامته مكلفة على نحو كبير. فالاقتصاد الصيني "لينيني"، حسب المؤلف، لأن الحزب الشيوعي المتحكم في السياسة الاقتصادية للبلاد مازال يتبع مقولات لينين العتيقة حول الحزب كطليعة للمجتمع وقائده الأوحد، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وهو أيضاً اقتصاد مهيكل بأسلوب الشركات، لأن النشاط الاقتصادي في الصين تؤطره الإدارة المركزية التي تلزم جميع الفرقاء الاقتصاديين في البلد بقرارات المركز. وفي ظل هذه البيئة الاقتصادية، يستحيل اتباع الخصخصة بمفهومها الصحيح، أو المضي قدماً في تحرير الأسواق. وللتدليل على رأيه، يورد المؤلف تصريح الرئيس الصيني "هو جينتاو" الذي قال فيه عن الحزب الشيوعي الحاكم "إنه يضطلع بدور رئيسي في عملية التنسيق بين جميع القطاعات. فعلى أعضاء الحزب، في المنظمات وفي الحكومة، أن يكونوا في الصورة دائماً، وذلك لتتحقق قيادة الحزب في مجمل شؤون الدولة". هذه السيطرة الكلية للحزب الشيوعي على مقاليد الاقتصاد في الصين تفضي إلى الفساد، بحيث أصبح الحزب القائد، إحدى أكثر المنظمات فساداً في العالم. وبسبب السلطة المطلقة للحزب الشيوعي وما يرافقها من أيديولوجية، ما عادت الصين قادرة على تقديم توصيف صادق للواقع الجديد بعدما تسرب إليها فيروس الفساد المميت. ومع ذلك فهذه الحقائق التي يبرزها الكاتب حول الاقتصاد الصيني نادراً ما تلفت أنظار الاقتصاديين الغربيين لتظل الصورة الوحيدة هي تلك التي تشيد بالمعجزة الصينية وتحذر منها في الوقت نفسه. فالفساد ضارب بأطنابه في عمق الاقتصاد الصيني وقد زاد تفشيه خلال السنوات الأخيرة على نحو يهدد التماسك الاقتصادي. فحسب الخبير الاقتصادي الصيني "هو أنجانج"، تراوحت التكلفة السنوية المترتبة عن الفساد طيلة العقد الماضي بين 13.3% و16.9% من الناتج المحلي الإجمالي. ولاشك أن ممارسات الفساد الكثيرة التي تطغى على الاقتصاد الصيني، من اختلاس وابتزاز وسيطرة غير قانونية على ممتلكات الغير... ناجمة بالأساس عن السلطة المطلقة لأعضاء الحزب الشيوعي في تسييرهم لمقدرات البلاد. وفيما عدا الفساد والمشاكل المترتبة عليه، يشير المؤلف إلى طبيعة الاقتصاد الصيني نفسه القائم على توجيه الدولة للمدخرات الهائلة إلى المشاريع الاستثمارية الكبرى التي تنجزها عمالة رخيصة. أما الاختلالات التي تعتور النموذج الاقتصادي الصيني، فهي واضحة للعيان. فإلى أي مدى تستطيع البنوك الصينية التابعة للدولة، الاستمرار في ضخ مليارات الدولار من المدخرات إلى الاستثمارات لتجني هامشاً ضئيلاً من الربح، بينما تسدد أرباح المدخرات للصينيين؟ لقد اتضح أن قدرة المزارعين الصينيين على الادخار في البنوك، لتحفيز معدلات النمو المرتفعة، وصلت ذروتها. ولتصحيح الوضع، يرى المؤلف أنه لابد للحزب الشيوعي من تخفيف قيوده المفروضة على الملكية الفردية، وخلق نظام للرعاية الاجتماعية، وذلك لتشجيع الاستهلاك الداخلي والتقليل من الادخار. زهير الكساب الكتاب: الكتابة على الحائط: لماذا علينا معانقة الصين كشريك وإلا التعامل معها كعدو المؤلف: ويل هوتون الناشر: فري بريس تاريخ النشر: 2006